طلال سلمان

على الطريق “السفير” في عامها الخامس عشر صحافة داخل الزمان والمكان والموضوع

لأن مصير الصحافة العربية، وبينها صحافة لبنان، “قضية” من الدرجة الأولى فإننا نستأذنكم ببعض الكلام الحميم عن الأزمة الخطيرة التي نعيش، ليس فقط كمهنة، بل كدور، كمهمة، كرسالة، ومدى الاحتياج إليها في اللحظة السياسية الراهنة.
ولأننا نستشعر الخطر على الصحافة العربية، دوراً ومصيراً ووجوداً، وصحافة لبنان هي أهم ما تبقى منها، فقد وجدنا أنفسنا في قلق جدي، مع دخول “السفير” عامها الخامس عشر، وهكذا التفتنا إلى من حولنا نستغيثهم ونسألهم الرأي والنصيحة (والنقد، بطبيعة الحال)، ونستنفرهم لنحمي معاً معلماً حضارياً مهدداً، وقلعة أخيرة من قلاع الدفاع عن كرامة الإنسان العربي وحقه في الحرية، وركيزة أساسية من ركائز الحياة السياسية، بل الحياة اللائقة بأي إنسان في أواخر القرن العشرين.
وبين المفارقات المريرة التي تمضنا، كأفراد، وكشعب وكأمة هذا الطلاق الواقع بين الحكم وبين العمل السياسي، وبالتالي بين النظام وبين الجمهور،
إننا “كأمة” أكثر ما نكون حاجة إلى الحرية، إلى الهواء الطلق، إلى شمس العقل ونور الفكر، إلى الصراع المفتوح على مداه، إلى تأكيد جدارة إنسانها بأرضه وبتاريخه، ماضياً وحاضراً، وإلى حقه في المشاركة المباشرة بصنع المستقبل.
لكن الواقع المأساوي الذي نعيشه يسجل اختفاء مضطرداً لدور الإنسان ومشاركته في الحياة العامة، وبالتالي في ما يمس مصيره (ووجوده) من قرار.
ففي ظل الهزيمة وباسمها وجهت رصاصة الرحمة إلى ما كان تبقى من هوامش للتعبير، ثم ضاع الجميع في غياهب الأزمة المتعددة الجوانب الناجمة عن العجز في استيعاب أسباب الهزيمة ونتائجها، ثم في مواجهتها وتخطيها.
لقد انعدم أو يكاد ينعدم العمل السياسي في الوطن العربي.
التهمت السلطة الأحزاب فشلتها وأعجزتها عن الفعل، وأقامت سداً بينها وبين جمهورها، ثم التهمت بعدها مختلف المؤسسات الجماهيرية الطابع والتوجه النقابات، الاتحادات المهنية، الروابط والأندية والمنابر الثقافية وصولاً على الجمعيات الخيرية).
والأخطر إنها عطلت سلطات الرقابة جميعاً، الرسمية والشعبية، وبينها أو في الطليعة منها الصحافة، صحافة الداخل وصحافة الخارج.
صار الكل موظفاً عند “الدولة”، أو عند “النظام” أو عند “الحاكم” الذي أعطى نفسه – باسم الله أو باسم النسب أو باسم الشعب – من صلاحيات ذي الجلالة بقدر ما أعطاها من أسمائه الحسنى!
وفي حالات أخرى أنشأ الملوك أحزابهم، لكي يموهوا حكم الفرد المقدس بتزوير فاضح يسرق من الشعب – بعد دوره – اسمه ذاته!
ومدت الأنظمة، عموماً، يدها إلى الأحزاب، خارج حدود هيمنتها، فأضافت إلى أزمتها الذاتية، أي العجز الفكري والسياسي، أزمة الصمت والانصراف عن مواجهة مأساتها.
كانت الأزمة وما تزال خطيرة وساحقة، لكن الرد عليها جاء نقيضاً لما هو مطلوب ونافع : بدلاً من تحريض القعل وإطلاق الطاقات وتسخير الإمكانات لمواجهة وجوه القصور، فكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وحسمها بالإنسان، وليس إلا بالإنسان، فقد تم تجميد العقل، حتى لا نقول “إلغاء العقل” وشطب المواطن من المعادلة.. وأناب الحكم نفسه عن الجميع، وقام “ناطوراً” للهزيمة يمنع “التعدي” عليها وإزالة أسبابها والنتائج!
لماذا هذه المقدمة؟
لكي نقول إن أزمة الصحافة العربية، وبينها أزمة الصحافة في لبنان، هي أبأس وجوه أزمة الأمة، بأقطارها المختلفة.
ولكي نقول، من ثم، إن استمرار الصحافة في لبنان، وبغض النظر عن حجم همومها وعن مستوى أدائها المهني، يعبر عن قدر من الإرادة، ومن الشجاعة، في التصدي للأزمة ومواجهتها.
إن استمرار الصحافة في لبنان، على ما هي عليه، هو تحد مباشر لمناخ الموت السائد، وهو شهادة للصحافة بأنها تحاول – قدر جهدها – أن تتصدى لما يضعف الأمة ويعطل دورها ويخرجها من سياق الصراعز
وهي شهادة للصحافة العربية، وليست لنا فقط نحن الصحافيين في لبنان.
لقد كانت صحافة لبنان، منذ انطلاقتها الكبرى في الخمسينات، مترافقة ومعبرة عن حيوية حركة الأمة في إرادتها التحرر والانطلاق نحو الغد الأفضل.
وبهذا المعنى كانت صحافة العرب.
كانت صحافة ثوارهم ، وكانت صحافة حكامهم.
كانت صحافة أحزابهم، سواء المشاركة في السلطة أم المعبرة عنها، ومنبر تياراتهم الفكرية المعارضة والمعبرة عن نزوع حقيقي إلى غد أفضل.
كانت صحافة الحكم، وقبل : صحافة المعارضة، في كل قطر عربي.
وبهذا فقد كانت صحافة كل العرب: الأقلية الحاكمة والأكثرية المعارضة أو المعترضة أو المتحفظة أو الموافقة بحدود وبشروط.
ولأن العرب صاروا شعوباً وقبائل فقد تضاءل دور صحافة لبنان وفقدت الكثير من دورها كصحافة للعرب.
لقد حلت الأنظمة محل الأمة. صار كل نظام هو المقدس، هو الهدف، وهو الغاية، هو بديل الوطن، بأرضه وشعبه.
وأقام كل نظام صحافته. أصدر مجموعة من النشرات الحكومية البائسة التي تمنن الناس بعطاياه. وهو قد أصدرها في الداخل وفي الخارج، ولكنه أصدرها ليلغي “الداخل” وليلغي أيضاً المساحة المتاحة في الخارج للصحافة. ففي صحف الحكام لا ترى صورة القطر الذي يحكمون. إنها صحافة محلية جداً، تهتم بالإداريات بما هي تعبير عن عطايا الحاكم، ولا تهتم بالناس، لا تعكس همومهم ولا تعبر عن أمانيهم والطموحات.
وفي صحف الحكام، حتى وهي تصدر في الخارج، لا ترى ولا تعرف شيئاً عن الداخل، ولا كذلك عن الخارج.
إنها، بمعظمها، صحف تصدر خارج الزمان، وخارج المكان، وخارج الموضوع.
ولذلك فلا هي صحافة، ولا هي عربية.
وأكثر ما يخيف الحكام، عموماً، هو “الداخل”. فالداخل يعني الشعب ويعني الأرض ويعني الالتزام بموجبات الصراع القومي.
من هنا فهؤلاء الحكام ضد انتفاضة شعب فلسطين في أرضه المحتلة، لأنها انتفاضة في الداخل، ولأنها أعادت الاعتبار إلى الداخل. ولأنها كشفت إن الموضوع، المسألة والحل في الداخل.
ومجرد أن يبدأ الحديث عن الداخل وفي الداخل فإنه لا ينتهي: بل هو سينتقل بالعدوى إلى “الداخل” في كل قطر عربي. وهذا يهدد النظام لأن الداخل لا يتسع معه لأحد آخر.
ولأن هؤلاء الحكام ضد “الداخل” فهم قد أشعلوا أو تورطوا في سلسلة من الحروب الأهلية تشغل من في الداخل عنهم، وتزور لهم قضايا غير قضيتهم الأصلية، وتلجئهم إلى الحاكم خوفاً مما بعده، وهو قد أتقن اللعبة فلم يبق بديلاً له إلا الطوفان.
ولقد كانت الصحافة العربية عموماً، وصحافة لبنان بالذات، الضحية الأولى لنار الحرب الأهلية (العربية غالباً والمحلية دائماً) في لبنان.
وبقدر ما كانت حرب لبنان حرباً أهلية عربية مفتوحة فإن الحرب العراقية – الإيرانية هي حرب إسلامية مفتوحة.
وأين في نار هاتين الحربين يتبقى ما يذكر بالصراع العربي الإسرائيلي.
والحرب الأهلية، عموماً، هي الوجه الآخر للعجز العربي عن مواجهة العدو وقتاله. فالاقتتال الداخلي هو دائماً بديل القتال في ميدانه الأصلي مع العدو الأصلي.
وحرب لبنان أهلية لأنها، في صورة منها، حرب بين الطوائف، أو بين المذاهب.
وهذه الحرب قد أنشأت “صحفها” و”مجلاتها واذاعاتها ومحطات التلفزيون الخاصة بها، وسخرت التكنولوجيا لتعميق خندق الدم الفاصل بين المواطنين من جهة، ثم بينهم وبين أرضهم من جهة أخرى، ثم بينهم وبين قضيتهم الحقيقية من جهة ثالثة.
على إن كل ذلك لم يلغ دور صحافة لبنان ولم يهزمها، بل هي ما تزال تقاوم، وما تزال – برغم ضعفها – صحافة عربية.
فاستمرار الصحافة، في لبنان علامة صحة وعافية ليس للبناني فحسب بل للمواطن العربي في مختلف إرجاء هذا الوطن الكبير.
وإذا كان مما يحزن أن نشهد انطفاء دور الصحافة، في الأقطار العربية الأخرى، فإن مما يفرح أن تستمر الصحافة في لبنان، منبراً ومنتدى وتعبيراً عن حيوية الأمة وإنسانها.
إن المواطن العرربي مكبل اليدين، مكموم الفم والفكر، محاصر بالقمع والإرهاب، والأخطر إنه مطالب بنسيان مقومات وجوده، والبديهيات التي تشكل وجدانه.
إنه مطالب، مرة أخرى، بأن يعيد اكتشاف هويته. ففلسطينية الفلسطيني عمل إرهاب موجه ضد إسرائيل. وعروبة المصري، مثلاً، إرهاب موجه ضد كامب ديفيد والرعاية الأميركية، ووطنية اللبناني تمرد مسلح ضد الطائفية والقوى المستفيدة منها.
ثم إن صحافة لبنان تعرضت، بقدر ما بقيت وحيدة تقريباً في الساحات، لمجمل المضايقات التي يتعرض لها المواطن العربي في مختلف أقطاره. فعليها أن تحطم العقبات الفنية (إمكانات الوصول في غياب شبكة مواصلات عربية، واختلاف العملات، وتفاوت أسعار الكلفة)، ثم عليها أن تواجه العقبات السياسية من الإغراء إلى الإرهاب بالمنع والمصادرة (وما قد يتجاوز ذلها)ز
فالشرطي هو الذي يقرر ما إذا كانت الكلمة مفيدة للمواطن أم لا. باعتباره الوصي عليه والقيم على إدراكه وعلى قيمه وأخلاقه وإيمانه بالله وباليوم الآخر.
وصحافة لبنان تخوض الآن معركتها الكبرى ضد الحرب، الحرب الأهلية بكل أشكالها، وضد أبطال الحرب والمنتفعين منها بمختلف تسمياتهم.
وهي تخوض هذه المعركة بوعي،
فهي تدرك إنها خط الدفاع الأخير عن فكرة العروبة، بما هي دعوة على الحياة الأفضل، وهوية قومية تعني الكرامة بقدر ما تعني الخبر، وبما هي توجه حقيقي نحو الحرية لأنها شرط الوحدة. والوحدة شرط الوجود.
إن “السفير” في أزمة،
إن الصحافة العربية عموماً، ومنها صحافة لبنان، في أزمة،
وهي أزمة خطيرة بمختلف وجوهها السياسية والاقتصادية، ويا لهول الضغط الاقتصادي.
لكننا مستمرون في المواجهة،
ولقد صمدت “السفير” حتى الآن، 14 سنة،
ولسوف تصمد أكثر بقوة المؤمنين بالأمة سيدة لمصيرها، بلبنان واحة للحرية والديموقراطية والفكر والثقافة، بإرادة العرب، ومن أجل العرب في لبنان وخارجه.

Exit mobile version