طلال سلمان

على الطريق السادات يستفي مصر: تريدينني أم تريدين نفسك؟!

قبل أحد عشر عاماً، ونتيجة لمصادفة قدرية مفجعة، فرض على شعب مصر أن يسلم بأنور السادات رئيساً للجمهورية وبديلاً عن جمال عبد الناصر!
بعد سنة واحدة، فرض أنور السادات على شعب مصر أن يقبل انقلابه في 15 مايو (أيار) 1971 بديلاً عن ثورة 23 يوليو: وكانت تلك خطوة أولى على طريق طويلة حاول خلالها السادات أن يفرض على المصريين المفاضلة بين العروبة وبين الديمقراطية، بين الثورة وبين الخبز، بين “الازدهار” وبين تحرير الأرض.
وبعد “حرب العبور”، في تشرين أول (أكتوبر) 1973، استغل أنور السادات “وهم النصر” الذي حققه جندي جمال عبد الناصر وابن ثورة 23 يوليو، بدعم عربي غير محدود، ليفرض على شعب مصر أن يبدأ رحلة تيه في الصحراء الأميركية ركضاً وراء سراب الحل – السلام، ما تزال مستمرة حتى الآن وبغير أمل في ختام مقبول لها.
واستمرت الخطوات متلاحقة: من خيمة الكيلو 101 إلى اتفاق الفصل بين القوات، إلى اتفاق سيناء، فإلى رحلة الخيانة إلى القدس المحتلة في خريف 1977 التي جاءت إعلاناً صريحاً بالخروج على إرادة الأمة. سرعان ما توجتها اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي.
ومرة أخرى فرض السادات على شعب مصر خياراً مراً بين كرامته وبين لقمة عيشه، بين تعليم أطفاله وبين تحرير أرضه وإرادته المحتلتين.
اليوم يفرض أنور السادات على شعب مصر أن يختار – وبالاستفتاء الحر طبعاً (!) بين مصر وبين شخصه الكريم!
وهكذا سيكون على كل مواطن مصري أن يذهب إلى صناديق الاستفتاء الأسود. يوم الخميس المقبل ليقول: “أنا مع الرئيس ضد مصر، أنا مع أنور السادات ضد الجميع! أنا مع الرئيس المؤمن محمد أنور السادات وضد المؤمنين جميعاً سواء أكانوا مسلمين أم أقباطاً.. وأنا مع الرئيس – الحزب (حتى لا ننسى أن السادات رئيس للحزب الحاكم)، وضد الأحزاب والحزبيين جميعاً سواء أكانوا يمينيين كفؤاد سراج الدين أو يساريين كخالد محي الدين أو في الوسط كإبراهيم شكري ومحمود القاضي.
وسيكون على كل مواطن مصري أن يذهب إلى صناديق الاقتراع ليقول: “أنا مع السادات وضد المصريين جميعاً، فالأربعون مليوناً – وبحسب توصيف السادات نفسه – يقفون ضده، وبالتالي فلا بد من أن أكون ضدهم، مع معرفتي بأني أنا منهم وفيهم.
وسيكون على هذا المواطن أن يقول: “وأنا مع الرئيس السادات، الكاتب والصحافي (حتى لا ننسى أن السادات رئيس تحرير “الجمهورية” في عهد الرئيس عبد الناصر، ثم أسس ورعى صحيفتين ناطقتين باسمه في عهده هما “أكتوبر” و”مايو”). أنا معه كاتباً وصحافياً وحيداً، وضد الكتاب والصحافيين عموماً، لاسيما من كان بينهم صاحب رأي أو صاحب علم أو له تاريخ في العمل الوطني”.
بصيغة أخرى، مطلوب من كل مواطن مصري أن يواجه نفسه يوم الخميس المقبل، فيقول: “أنا مع الرئيس وبالتالي فأنا ضد الحريات جميعاً بما في ذلك حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، وأنا ضد الديمقراطية بأشكالها كافة، وعلى وجه الخصوص ضد حرية التعبير قولاً وإذاعة وكتابة ولو على الجدران…”.
مطلوب من كل مصري أن يذهب إلى صناديق الاستفتاء ليقول: “أنا ليست مصرياً، بل أنا ليست شيئاً، ولا علاقة لي من قريب أو من بعيد بالدين أو بالسياسة، بالفكر او بالصحافة، بالعلم أو بالتعليم بالعمل العام كله بما في ذلك الجمعيات الخيرية”.
مطلوب من كل مصري، باختصار أن يناشد الرئيس المؤمن بقوله: “من فضلك يا مولاي، كلني!..”
وصحيح إن الأنظمة الغربية الأخرى متهمة عموماً بممارسة القمع ولكن أياً منها لم يدع مرة إنه يقمع بناء لطلب الشعب وتلبية لطلبه بالاستفتاء الحر.
على إن ما فعله أنور السادات ليس شراً كله، بل لعل وجوه الخير فيه هي الأبرز من ذلك:
1 – إن السادات، قد أكد – بلسانه كما بإجراءاته القمعية غير المسبوقة – سقوط الشعارات المضللة التي رفعها ليستر بها خروجه على إرادة الشعب والأمة، والتي كان من بينها : إطلاق الحريات، سيادة القانون، إنهاء عصر الاعتقالات وتفريغ السجون والمعتقلات من المقبوض عليهم لأسباب تتصل بحرية الفكر والمعتقد، إقامة المؤسسة الدستورية لحماية “دولة العلم والإيمان”.
2 – إن السادات قد أكد – بلسانه كما بإجراءاته القمعية – إن حجم المعارضة لشخصه ولنظامه ولسياساته أوسع بكثير مما يتصوره غلاة المتفائلين بحدوث تغيير قريب في مصر.
3 – إن السادات قد أخرج إلى النور واحدة من النتائج المنطقية لسياسة الفصل بين مصر وبين أمتها العربية، فلا ديمقراطية بعيداً عن العروبة وبالتضاد معها، ولم تكن ديمقراطية بالتأكيد تلك المهزلة السياسية التي ترافقت مع مسيرة الصلح الإسرائيلي، بكل ما تضمنته من إجراءات فولكلورية سخيفة، فلا الأحزاب التي أقامها السادات أبقاها، ولا هو احترم المؤسسات التي أنشأها بقرارات، ثم ها هو يلغي كل شيء بجرة قلمز
4 – إن السادات قد دفع ببعض “الوسطيين” دفعاً إلى تحديد موقف صريح منه ومن سياسته، أي منه ومن الحل الأميركي والصلح الإسرائيلي. فأسقط بذلك هامش المناورة أمام القابلين بالسادات الأميركي والرافضين في الوقت نفسه السادات الإسرائيلي!
وبعد اليوم لن يكون بوسع أحد، داخل مصر، أن يقول إنه “نصف معارض” أو إنه “معارض لبعض سياسات النظام “من دون البعض الآخر.
لقد فرض السادات على الجميع أن يكونوا إما معه بالمطلق وإما ضده، وعلى الآخرين أن يردوا على التحدي
وبعد اليوم لن يكون بوسع أحد خارج مصر، أن يقول: أنا مع أميركا وضد السادات، أو : أنا مع السادات وضد إسرائيل أو: أنا مع “التسوية السلمية لأزمة الشرق الأوسط ولكني لا أقر سياسة السادات ولا أقول قوله.
لقد حدد السادات اللوحة أمام الجميع في الداخل كما في الخارج بلونين فقط: أبيض وأسود.
وهكذا ألغى السادات مشكوراً المساحة الرمادية التي كان يتلظى فيها الكثير من الحكام العرب إضافة إلى العديد من السياسيين والكتاب، الصحافيين داخل مصر وخارجها.
فالسادات هو بيغن وهو هو ريغان، ولا فاصل بينهم جميعاً، ولا حصانة لمعارض مهما بلغ اعتداله، أو بالأحرى قربه من واشنطن، وكذلك مهما كان موقعه يستوي في ذلك بابا الأقباط وأمير جماعة الأخوان المسلمين. وهكذا يتأكد وبالدليل الملموس ما كان يقال دائماً من أن الوضع الشعبي في مصر، وبالرغم من كل المحن بل ربما بسبب هذه المحن، هو أفضل وضع شعبي في الوطن العربي والأكثر عافية والأصدق وعداً.
.. وعلى هذا يمكن القول أن نبتة الأمل قد شقت الأرض العربية العطشى إلى التغيير الحقيقي وإنها ستندفع إلى أعلى كل يوم، بعدما غمرها ضياء الشمس وملأ رئتيها الهواء النقي وبعدما سقطت أكذوبة “الديمقراطية كبديل عن العروبة” جنباً إلى جنب مع الأكذوبة الأخرى “العروبة كبديل عن الديمقراطية”.
وبين أعظم ما قدمته مصر بحركة شعبها الحية خلال الشهور القليلة الماضية، هو إعادة الاعتبار إلى الأساسيات والبديهيات الوطنية والقومية، ومن بينها إنه حيث تكون العروبة تكون الحرية والديمقراطية والخبز مع الكرامة، وحيث لا تكون لا يكون شيء غير القمع والقهر والأنظمة العاجزة المستسلمة للهيمنة الأميركية وبالتالي المعدة نفسها للذوبان في الإمبراطورية الإسرائيلية.
وفي كل الحالات فإن ما نشهده في مصر هو بداية البداية.
وليس عجباً أن تكون بداية البداية هذه “إيرانية” بعض الشيء كما يؤكد الرئيس السادات، وخمينية على وجه التحديد.
فمصر هي “المخبر” الضروري لتحويل الحديث الإيراني الجليل إلى ثورة كاملة.
وعلينا – بعد – أن ننتظر بعض الوقت لنشهد ولادة الفجر البهي، بعد الليل – الدهر الذي متنا فيه حتى الآن.

Exit mobile version