طلال سلمان

على الطريق السادات في الخرطوم؟!

إذا أنت لم تقصد الوحش فتقتله حيث يكمن لك مترصداً جاءك الوحش حيث أنت في منزلك.. فصارعك وصرعك مستقوياً عليك بخوفك منه وبهربك من المواجهة معه”.
هذه هي أبرز دلالة للزيارة التي يقوم بها أنور السادات اليوم لجمهورية جعفر نميري في الخرطوم والتي يتابعها العرب عبر الإذاعات وشاشات التلفزيون كما تابعوا من قبل زيارته للأراضي المحتلة أي بالدهشة والوجوم والحزن.. وشيء من التقدير لشجاعته الخارقة التي يفتقدون مثلها…
وبقدر ما تشكل هذه الزيارة مقدمة لهجوم ساداتي جديد وشامل على ما تبقى من رموز الصمود في الأمة العربية، فإنها تكشف حجم الخلل المريع في الوضع العربي السائد والذي يوفر للسادات ومن معه ابتداء بنميري وانتهاء بآخر متخاذل من المراهنين على التسوية السلمية لأزمة الشرق الأوسط مظلة واقية تظلله فتحميه وتقدمه للناس وكأنه أشجع من عليها.ز
والزيارة وإن كانت تمثل تطوراً نوعياً بارزاً في مسيرة الانحراف الساداتية المستقوية على العرب بعجزهم وبهربهم من المواجهة ليست مفاجأة لأحد ولا يستطيع أي منا أن يدعي أنه بوغت بها أو حتى بتوقيتها فهي تجيء نتيجة منطقية وتتويجاً لسلسلة من الخطوات المحسوبة والعلنية ولجملة من التطورات التي غيرت خريطة المنطقة العربية أو كادت وسط ذهول المندهشين وصمت المتواطئين والتقدير الضمني العام لشجاعة “الرئيس المؤمن” وإمساكه القوي والدائم بزمام المبادرة…
والسادات لا يزور اليوم نميري وحده وليس من المبالغة القول إنه سيجد في المطار الفقير بالخرطوم حشداً من “القادة” العرب المموهة وجوههم بالسمرة السودانية والمشرطة وجناتهم بالنجمة الأميركية التي وصلتهم وقبلوها سداسية الأضلاع..
فقبل ساعات من وصول السادات كان وزير دفاع نميري في السعودية بل وكان في الخرطوم مبعوث سعودي رفيع المستوى.
أما إمارات الخليج فنميري ضيف دائم فيها لا يغادرها حتى يبعث بموفديه إليها “للتنسيق” وتوكيد “التضامن العربي” في “مواجهة المخاطر التي تهدد المصير القومي”.
وأما حاكم المغرب فقد استغنى بالأصل عن الوسطاء وفتح أبواب قصوره للمسؤولين الإسرائيليين ليستقبلهم ويباحثهم في أفضل السبل لتأمين التزاوج بين العلم اليهودي والمال العربي…
ثم إن جعفر نميري في الجامعة العربية بعد يصول ويجول ويطالب بمعاقبة الجماهيرية العربية الليبية لأنها أوقفت النزف الدموي في تشاد وخلخلت ركائز الوجود الاستعماري في أفريقيا عامة وغرب أفريقيا على وجه الخصوص.
وهكذا من حق السادات أن يقول إنه ذاهب إلى أكثرية العرب في الخرطوم وليس إلى واحد من حكامهم المنبوذين – مثله – يدعى جعفر نميري.
بل إن أنور السادات سيلقى في مطار الخرطوم وفداً لبنانياً كبيراً “شعبياً” بزعامة بشير الجميل ومن معه “رسمياً” إذا ما استذكرنا مواقف بعض أطراف السلطة في لبنان من الصراع العربي – الإسرائيلي في طوره الراهن.
صحيح أن شعب السودان الطيب لن يخرج للقاء هذا الرئيس القادم من مصر والمدعي الكلام باسمها كما خرج كله قبل 14 سنة لاستقبال مصر الجريح بشخص جمال عبد الناصر ولكن من قال أن حضور هذا الشعب مطلوب هناك أو في أي مكان؟
أكثر من ذلك، إن غياب الشعب بل تغييبه كان شرط اللقاء وضمانة السلامة للمضيف كما لضيفه.
والصحيح أيضاً أن “المفرمة” التي استخدمها السادات لتمزيق شعب مصر وتفتيت قواه وتشتيت قياداته منذ انقلابه الشهير في مايو (أيار) 1971 كان لها نظيرها في يد نميري ولعله استخدمها وطوال السنوات العشر ذاتها بكفاءة أقل ولكن بمزيد من القسوة الدموية…
وها هما يلتقيان الآن وقد صفى أولهما ثورة 23 يوليو نهائياً وصفى معها مصر القائدة والرائدة، الناهضة والمستنهضة، وصفى الثاني حركة 25 مايو (أيار) 1969 التي انفجرت كرافد للثورة الأم وأنهاها عكازة يتوكأ عليها بطل كامب ديفيد والصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي…
وإذا لم يكن من حقنا أن ندعي المفاجأة بما يفعله السادات على الأقل منذ خريف 1977 – احتمالاً نقول منذ خريف 1973 وحرب العبور – فإن ادعاء المفاجأة بدور نميري وتبعيته المطلقة للسادات المرتد فالمتأمرك ثم المتواطئ فالخائن صراحة، يصبح أشبه بالنكتة السمجة.
ولعل الفارق الوحيد أن العرب عرضوا على السادات أن يشتروا منه خيانته بخمسة مليارات من الدولارات فأبى عليهم ذلك بينما عرض نميري خيانته عليهم فما اشتروها منه بل لعلهم حرضوه على المضي قدماً حتى يغطي السادات من جهة ويبقى رأس جسر بينهم وبينه في انتظار خطة “انتصار العمل” والعودة إلى أفياء التضامن العربي…
أي أن عرب أميركا تركوا السادات يذهب إلى إسرائيل متذرعاً ببخلهم فلما فعلها عرضوا عليه بسخاء مزينين طريق الخيانة أمام الآخرين من الراغبين فيها أو من الفقراء الطامعين فيهم.
وعلى حد تعبير أذكى السياسيين العرب فإن قمة بغداد (الشهيرة بقمة الحد الأدنى) قد أكملت ما بدأه السادات… هو حطم حاجزاً نفسياً أول حين ذهب إلى العدو الإسرائيلي بنفسه وبغير قيد أو شرط، وهم حطموا الحاجز النفسي الثاني حاجز الخوف من العقوبة حين حددوها وحصروها بنقل مقر الجامعة العربية وسحب سفرائهم من القاهرة وكفى الله المؤمنين شر القتال…
وها هي النتائج تؤكد هذا الاستخلاص، فمم يمكن أن يخاف نميري وهو يرى أن السادات نفسه ما يزال بألف خير مع العرب بالذات.. فلا أموالهم توقفت عنه ولا شركاتهم تركت القاهرة وما تزال المليارات التي يجنيها المواطنون المصريون العاملون لدى عرب النفط تصله بغير موانع أو حواجز.
بل إن العرب بمن فيهم القائلون بالثورة والحاملون لألويتها ما يزالون يلاغونه ويحفظون خط الرجعة معه ويبيعون ويشترون منه أشياء كثيرة.
والذي يشجع نميري ويحرضه على التعاطي مع السادات إلى حد يمكنه من اختراق الصف العربي المتهالك بالخوف والتخاذل، هو نفسه الذي يشجع آخرين بينهم بشير الجميل بالتأكيد على التعاطي المباشر مع العدو الإسرائيلي والوصول بالعلاقة معه إلى حد التحالف الإسرائيلي…
فما دام لا عقوبة على الخائن فماذا على المتعاون معه؟.. اللوم، التقريع، بعض البيانات الضخمة الكلمات الخاوية من أي مضمون، بعض التصريحات، بعض التعليقات الإذاعية والصحافية!
إن نميري يستمد الآن من الوضع العربي شجاعة لم يكن يملكها ولم يكن ليملكها لو أن العرب واجهوا خيانة السادات بما تستحق من عقاب، وواجهوه فأخرجوا منه مصر وأخرجوها منه بدل أن يتخلوا عنها له ويخرجوا هم منها… مع الاحتفاظ بعلاقاتهم معه…
لقد ساعدوا السادات على إخراج مصر من العروبة وإخراج العروبة من مصر فكان طبيعياً أن يتمدد العدو الإسرائيلي بعد ذلك فيها وأصلاً إلى السودان في طريقه إلى سائر الأرض العربية.
وهم ما ساعدوا السادات إلا لكونهم يخافون العروبة بما هي التزام بالعداء للصهيونية ومواجهتها بقوة السلاح أكثر مما يخافون العدو الإسرائيلي…
وهم الآن يتابعون السياسة ذاتها وبوضوح فوق الساحة اللبنانية فيتخلون عن لبنان الوطني ويتآمرون عليه وعلى المقاومة الفلسطينية فيه ويحاولون إضعاف صمود سوريا وقدرتها على التصدي بينما تتشدق إذاعاتهم وصحف المشايخ والسلاطين بالحديث عن الاعتراض على كامب ديفيد..
ويبقى السؤال هو هو: ما الحل؟
ويبقى الجواب هو هو: الحل أن نقاتل العدو الإسرائيلي حيث نجده بادئين بأنفسنا.. بقلوبنا الواجفة وبأيدينا المرتعشة بنفوسنا التي عشش فيها التخاذل والرضى بالاستسلام وكأنه قدرنا الأخير.. إن السادات فينا وكذلك نميري وسلاطين النفط والأمراء ومشروع الهيمنة الأميركي وبالطبع بشير الجميل وصولاً إلى أبو أرز.
إن السادات فينا، وما لم نقاتله فينا فسينتصر علينا جميعاً على امتداد الأرض العربية بين المحيط والخليج…
وجبهة لبنان مفتوحة لمن أراد القتال…
وجبهة لبنان هي الآن وضمن معطيات الوضع العربي القائم ساحة الساحات جميعاً.. من انتصر فيها كمن انتصر في كل مكان ومن هزم فيها خسر الأرض جميعاً ومن عليها…
والسادات حتى إشعار آخر هو بطل الحرب اللبنانية والنافخ الأول في نارها..
فلنسقطه في بيروت وعندها لن تنفعه خرطوم جعفر نميري. والكلام موجه أولاً وأخيراً إلى المستعد للقتال والقادر عليه والمندفع إلى ساحته..
إلى المواطن العربي العادي، إلى المتشوق إلى غد أفضل إلى كل عاشق للحياة.
لقد كشف الأعداء جميعاً عن وجوههم فإذا هم واحد.. فلنقاتلهم وفي وعينا وحدتهم بدل أن نظل ضائعين في أوهامنا حول اختلافهم وتمايز بعضهم عن بعض.
أما الخرطوم صانعة اللاءات العربية الشهيرة ورافضة الهزيمة وواقع الاحتلال الإسرائيلي.
أما الخرطوم هذه فهي تعرف طريقها وستعود حتماً كما يشهد تاريخها الذي يختلع بدماء الشهداء فيها أمامنا…

Exit mobile version