طلال سلمان

على الطريق الزيارة والثقة..

ما يزال الطبع يغلب على التطبع في تصرفات الشيخ أمين الجميل ويحد من تقيده بمقتضيات منصب رئاسة الجمهورية وما يفرضه من أصول في ممارسة الحكم والمشاركة في اللعبة السياسية.
ولأن الرئيس الجميل بطبعه “رجل علاقات عامة” فهو يعطي أهمية فائقة، للصلات الشخصية ويفترض إن قليلاً من الدماثة واللطف وحسن الاستقبال وجميل الكلام يمكن أن ينقل خصماً إلى موقع الصديق، فإذا استكمل ذلك كله بغداء إلى مائدته صار الخصم حليفاً لا محالة،
ولأن الرئيس الجميل “محام” خاض في دنيا المال والأعمال، والوكالات التجارية وصولاً إلى الصحافة والنشر والتوثيق والمعلوماتية، فهو يعطي أهمية فائقة للتفاهم الثنائي المكتوم وللاتفاقات المباشرة وللقاءات الجانبية أكثر من إيمانه بالاتفاقات العلنية ومع أصحاب العلاقة مجتمعين،
ولأن الرئيس الجميل “لبناني” فهو شديد الإيمان بالشطارة وبدور البراعة الشخصية في “تمرير” المسائل. فاللبناني عموماً يهتم بأن يتم الأمر أكثر من اهتمامه بكيف يتم وبما ينتج عن إتمامه، فتلك مسألة أخرى يتحمل مسؤوليتها غيره، ولغيره أن يتصرف بما يناسب مصلحته و”الشاطر ما يموت”!!
نقول هذا وأمامنا مجموعة من الوقائع والتصرفات التي تجسم مسلك الرئيس أمين الجميل أو منهجه في الحكم، والتي نعتقد إنها تتسبب في كثير من الارتباكات والاشكالات التي عطلت وستعطل مسيرة “حكومة الوحدة الوطنية” والحكم، وقد تعرقل التوجه نحو توفير المناخ الصحي الضروري لاستكمال الحوار حول الحل السياسي العتيد للأزمة اللبنانية.
أبرز هذه الوقائع وأهمها وآخرها، من حيث الترتيب الزمني: زيارة دمشق، ونبادر فنقول إن لا أحد ضد أن يزور رئيس الجمهورية دمشق كل شهر أو شهرين مثلاً وهو لو لم يقم بهذه الزيارة، يوم الثلاثاء الماضي لكان الناس طالبوه بأن يستعجل لقاء جديداً مع الرئيس حافظ الأسد… فلا أمر يتقدم، الآن، على التفاهم الدائم والتنسيق الكامل بين بعبدا (أو بكفيا) والعاصمة السورية.
ثم إن الفترة التي أعقبت قمة دمشق في 19 نيسان الماضي، حفلت باحداث جسام وتطورات مؤثرة إن على صعيد المنطقة ككل (التصعيد الخطير في الحرب العراقية الإيرانية) أو على صعيد الوضع الداخلي (تشكيل “حكومة الاتحاد الوطني” بكل ما رافق التشكيل وأعقبه من إشكالات وارتباكات)، وكل ذلك يستدعي التشاور، خصوصاً إذا ما التفت إلى تحركات العدو الإسرائيلي وترتيباته الخاصة في الأراضي اللبنانية المحتلة: الجنوب والبقاع الغربي وراشيا وبعض الجبل وصولاً إلى الباروك وإلى احتمالات أن يكلف هذا العدو بدور عسكري ما لإحداث تغيير جدي في ميزان القوى القائم حالياً في المنطقة.
على إن الناس سجلوا على الرئيس الجميل جملة من الملاحظات والمآخذ انطلاقاً من الزيارة، تكفي لأن تذهب بنتائجها، هذا إذا كانت النتائج معلنة وطيبة، فكيف في حال “لا حس ولا خبر” عن الزيارة والنتائج، رسمياً حتى هذه الساعة؟!
أبرز الملاحظات والمآخذ هي الآتية:
1 – في الشكل
لم يفهم الناس لماذا كانت الزيارة سرية أصلاً!! وإذا كانوا مستعدين لقبول العذر الأمني لعدم الإعلان مسبقاً عنها. فلماذا الإصرار على الصمت بعد إتمامها؟! ولماذا التشكيك في الواقعة عبر الايعاز بنفيها مداورة، أي عبر بعض وكالات الأنباء الخاصة وبعض محطات الاذاعة الخاصة، وبعض الصحف الخاصة جداً (العمل)؟!
2 – في الأساس
*لماذا ذهب رئيس الجمهورية وحيداً في مهمة لو لم يكن لها ما استوجبها لما لزم القيام بها؟!
*لماذا لم يصطحب رئيس الحكومة، على الأقل، الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية، والذي يعرف القاصي والداني إن تكليفه تم بالاتفاق مع دمشق وعبرها كضمانة لتغيير جذري في النهج السياسي المعتمد؟ أفلم يكن قطباً في “جبهة الخلاص” المعارضة للنهج والسياسة؟!
*ثم، لماذا لم يصطحب الرئيس الجميل بعض الوزراء، ولاسيما أولئك المختلة علاقته بهم، والذين ذكر إنه إنما ذهب إلى دمشق ليستعين بها عليهم حتى يبدلوا أو يلينوا في مواقفهم؟!
ويقول الناس: إن كان موضوع الزيارة هو ما تعانيه الحكومة من تعثر، سواء بسبب من تشوهات الولادة التي تمت بعملية قيصرية، أو بسبب ما رافق الولادة وأعقبتها من ردود فعل عاتبة أو غاضبة فقد كان المنطق أن يكون الرئيس كرامي مع الرئيس الجميل، فالرجل يشاركه المسؤولية عن تأليف الحكومة بصورة يرى فيها البعض خروجاً على اتفاق دمشق، وإضراراً بسلامة التوجه.
كيف؟!
يقول هؤلاء المعترضون، وفيهم أصدقاء بارزون لدمشق، إن الصيغة الموسعة (26 وزيراً) كانت تستهدف تحقيق أمور عدة في آن، أهمها إدخال جميع الفعاليات والقوى السياسية – العسكرية والتيارات والاتجاهات السائدة بما فيها المتطرفة إلى إيوان الحكم كمحاولة جدية لاستبدال صراع السلاح بصراع الآراء. وما حصل كان العكس إلى حد كبير: لقد اختزلت الحكومة فتحول من كان يفترض أن يكونوا وزراء دولة متفرغين للشأن السياسي (الأقطاب) إلى وزراء لحقائب لا يمكنهم عملياً إعطاءها الوقت المطلوب، في حين تأخذ من مهمتهم الأصلية ثم إن التشكيلة تسببت في إبعاد أو استبعاد أو ابتعاد بعض هذه الفعاليات والتيارات كالرئيس سليمان فرنجية و”القوات اللبنانية” وكامل الأسعد وصائب سلام والشيخ محمد مهدي شمس الدين، إضافة إلى الحاضر الغائب ريمون اده وآخرين.
وبدلاً من أن يكسر احتكار تمثيل “الجبهة اللبنانية” للموارنة خصوصاً وللمسيحيين عموماً فقد تم تكريس هذا الاحتكار، بما أذى الرئيس فرنجية ومن يقول قوله، مباشرة وشكل “عقوبة” للأرثوذكس الذين تميزوا بموقفهم، وإعادة للأرمن إلى “بيت الطاعة” أو “البيت المركزي” وقطعاً للطريق أمام أي طرف يفكر بخطوة تخرجه من نطاق وحدانية التمثيل.
ومن حق دمشق أن تسمع ومن الرئيسين معاً الأسباب التي حدت بالحكم إلى الخروج على ما اتفق عليه، خصوصاً وإن بعض الارتباكات والعثرات نجمت عنه،
ومن الظلم للرئيس كرامي أن يحمّل وحده المسؤولية، حتى لو طلبها، أو أن يعتبر ممثلاً لدمشق والافتراض إنه لا يفعل إلا ما تريدهن أو ما ترضاه… فدمشق هي دمشق والرئيس كرامي هو الرئيس كرامي وبين مؤهلاته وصفاته صداقته للمسؤولين السوريين وإيمانه بالخيار العربي، قدراً للبنان وبالدور السوري كأحد ركائز الحل المرتجى.
بالمقابل فإن “القوات اللبنانية” ظلت طليقة اليد، تستطيع الادعاء – كما تردد قيادتها وبياناتها كل يوم – إنها غير ممثلة في الحكم أو الحكومة، لا بشخص رئيس الجمهورية طبعاً (وهو نجل الشيخ بيار عضو المكتب السياسي ، النائب عن الحزب ، رئيس إقليم المتن الشمالي الخ)، ولا بشخص الشيخ بيار الجميل ذاته، ولا بـ “الجبهة اللبنانية” ممثلة برئيسها كميل شمعون وقوتها الضاربة حزب الكتائب.
ومن حق الجميع، ومعهم دمشق، أن يعرفوا مرة أخيرة نهاية لهذه الأسطورة التي تجعل الحزب الواحد اثنين والاثنين أربعة، وتساوم وتبتز باسم مجموعة من التنظيمات والأسماء الوهمية (كمن يتولى مسؤولية مكتب القدس المحتلة)، في حين كان يفترض أن رئيس الجمهورية بالذات هو ممثلها جميعاً… وإلا فبأي صفة جاء، وبأي صفة قدم وانتخب أمين الجميل؟!
وبدلاً من أن يكون هذا هو هم رئيس الجمهورية مع رئيس حكومته وحكومته مجتمعة، إضافة إلى سائر الخلق في لبنان ثم مع دمشق نراه يتابع مسلكه في عقد الاتفاقات الجانبية ومحاولة توظيف الاتصالات الشخصية في العلاقات السياسية… فهو بدلاً من تسهيل إطار صحي لحوار جدي وشامل بين ممثلي “القوات” من جهة و”أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي” من جهة أخرى، بأفق وطني وباستهداف الوصول إلى توافق يصلح أساساً لهدنة أو لتسوية رأيناه يمهد للقاء ثنائي بين وليد جنبلاط وفادي أفرام (ومعه ايلي حبيقة) ، لا يمكن أن يشكل حواراً، ولا أن يثمر فعلاً… إلا إذا كانت الثمرة المرجوة هز علاقات التحالف بين “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي.
وبدلاً من أن يسعى لحل مسألة قائد الجيش في إطارها الصحيح أي عبر فتح ملف الجيش بكليته وحسم معطلات وحدته وقيامه بدوره، وبينها موقع قيادته الحالية ومسؤوليتها عما كان ، رأيناه يحاول بيع منصب وهمي ومصطنع (نائب قائد الجيش) إلى “الشيعة”… كأنما الأمر ينتهي باسترضاء شكلي لطائفة بالذات تعي تماماً إن الغرض من العرض هو أن تشجر خلافات مذهبية حادة على موضوع تافه من أصله!!! وكأنما قضية الجيش كلها يمكن أن تغطي وتسوى بذر قرن الخلاف بين الآخرين فيلتهون بأنفسهم عن الجيش والقيادة في حين يواصل فادي أفرام حديثه الصريح عن “التحالف” بينه وبين من قد يحاسبون في قيادة الجيش عن الجرائم التي ارتكبت في الشهور الأخيرة، وكذلك عن استخدامه الرخيص للجيش كحارس مسلح “لغيتو” القوات اللبنانية” ناهيك عن تواصل حديثه عن دوام العلاقة… إن مثل هذا النهج لا يمكن أن يؤدي إلى إنهاء الحرب الأهلية… بل إن من شأنه أن يؤدي إلى إفشال أي جهد جدي للوصول إلى تسوية سياسية تحقق للناس الحد الأدنى من مطالبهم: أي استكمال الحوار السياسي حول “الصيغة” المنشودة لمستقبل البلاد في ظل هدوء أمني شامل يطلق العقل من سراحه ويحد من وحشية الغرائز الطائفية المستثارة والمطلقة لتنهش في الناس خطفاً وقتلاً بالقصف والنسف وقنص القناصة “المجهولين”؟!
ولقد كنا وما نزال نأمل أن تكون المهمة الأساسية “لحكومة الوحدة الوطنية” أن تضبط هذا النهج تمهيداً لإلغائه واستبداله بنهج آخر يساعد فعلاً على إنقاذ البلاد من محنتها التي فاقمتها سياسة المغامرة والابهار والمبادرات غير المدروسة والاعتماد المبالغ به على العلاقات الشخصية…
لهذا كله نأمل أن تتأكد الحكومة من سيادة “الثقة” بينها وبين رئيس الجمهورية من جهة وفي ما بين أعضائها من جهة ثانية (خصوصاً إذا ما استذكرنا تصريحات شمعون والشيخ بيار) قبل أن تطلب ثقة المجلس النيابي،
أما ثقة الناس بالحكم أولاً وقبل الحكومة فمرتبطة بأن يشعروا إنه بات بإمكانهم أخيراً أن يفتحوا النوافذ للشمس والهواء، وأن يفتحوا صدورهم للعطر والشوق والحب والأغنية والأمل، وأن يفتحوا عيونهم على الغد بدل أن تظل مغلقة على أحزان الأمس وهموم الحاضر الثقيلة!َ

Exit mobile version