طلال سلمان

على الطريق الرئيس الطائر!

ضرب الرئيس أمين الجميل الرقم القياسي في الحركة، تنقلاً وأسفاراً وعبوراً بين العواصم،
ومن قبل كان ياسر عرفات يقول عن نفسه إنه يستحق شهادة “كابتن طيار” بامتياز، لأن “ساعات طيرانه” تزيد عن تلك التي يحملها أهم الطيارين في العالم،
.. والشيخ أمين، كما هو معروف، يكن عاطفة إعجاب عميقة لـ “أبي عمار”، ويحب أن يقلده في الكثير من تصرفاته وأساليبه قولاً وعملاً، ولعله يزيد الآن في “ساعات طيرانه” حتى لا يبقى لصديقه الحميم أي تفوق عليه!
فخلال ثلاثة شهور، أو أقل، جاب أمين الجميل السماوات وعبر المحيطات والبحار والصحاري والوهاد، فزار دولاً تتوزع على أربع قارات (من أصل خمس) هي على التوالي: أفريقيا (الجزائر، أولاً ثم مصر)، وأميركا الشمالية (كندا ثم الولايات المتحدة الأميركية)، وآسيا (أبو ظبي والبحرين ثم عمان – القمة) وها هو الآن في أوروبا، للمرة الثانية (فقد زار سويسرا من قبل، وقد نام الليلة الماضية في باريس بطريق عودته من ألمانيا الغربية)…
بهذا لا يكون باقياً أمام الشيخ أمين إلا أوقيانياً حتى يكمل دورته حول العالم، ويدرج اسمه في قائمة “الرحالة” أولئك الذين يجوبون الآفاق ويكتشفون المجهول من أطراف الدنيا وأسرارها المخبوءة.
والجميل نقطة قطع وانفصال مع اللبنانيين حين هو مقاتل في سوق الغرب وحام لخطوط التماس، بينما هو نقطة اتصال مع الخارج حيث هو زائر دائم.
ولو إن في حركة الشيخ أمين بركة، كما يقول المثل، لتلقى منا ومن غيرنا التشجيع، ولكن الانقطاع واضح بل وصارخ بين جولات رئيس الجمهورية وبين الأوضاع البائسة في لبنان،
فهو يزور غير المعني ليحدثه في ما لا يفيد، ويعود من لدنه بلا نتيجة ليبشرنا بأنه “حقق نجاحاً ملحوظاً” لا ندري أين ولا نلمس لهذا النجاح أثراً على حياتنا التي تصبح أكثر فأكثر مستحيلة في ظل هذا العهد الميمون!
الأخطر من هذا: بين كل رحلة وأخرى يقع في لبنان حدث جلل (وربما أكثر) يكشف حقيقة مرة ومفزعة وهي إن لبنان الرسمي لم يعد موجوداً في ذاكرة المجتمع الدولي وفي اهتماماته، وإن “مراكز القرار” في العالم لم تعد تعنى بأن تسأل “الدولة” أو “الحكم” أو أن تتصل بها ولو من باب اللياقات والمجاملات والأصول الدبلوماسية.
أما ما يقال عن لبنان في العالم، وبرغم محاولات الرئيس وشروحاته، وأحياناً بسبب هذه الشروحات، فهو مثير للحزن والمرارة وربما الاشمئزاز!
فهو يطرح المسألة وكأن لا مشكلة إلا في الآخرين ومع الآخرين وبسبب الآخرين،
ويجيء جواب مضيفيه قاسياً إذ غالباً ما يتضمن نصحاً بضرورة تحقيق الوفاق الداخلي والانسجام مع المحيط العربي وتوثيق العلاقات مع سوريا والاعتماد على مساعدتها من أجل توفير مدخل إلى حل مقبول.
ومن عاصمة إلى عاصمة تكبر الفضيحة ويبعد الحل، ويزداد يأس اللبنانيين وإقبالهم على… الهجرة!
حسناً، وماذا بعد بون وبعدها ميونيخ عاصمة مقاطعة بافاريا؟!
وإلى أين ستتجه رحلة الهرب التالية؟!
هو يقول: ” – ما همني؟! إنني حيث ذهبت استقبل بمنتهى التكريم، كرئيس جمهورية شرعي! يفرش لي السجاد وتعزف الموسيقى ويحييني طابور الشرف، بالعلم، ويزدحم المسؤولون لاستقبالي وتكريمي… فماذا أريد أكثر”؟!
وهو يقول، أيضاً: “- يكون الوفاق معي وفي ظل رئاستي أو لا يكون وفاق ولا تكون رئاسة أبداً…”.
وهو يقول: “- بعد موت بيار الجميل وكميل شمعون لم يعد للموارنة، بل للمسيحيين في لبنان خصوصاً، وفي الشرق عموماً، زعيم غيري.. وسأكون هذا الزعيم، مهما كلف الأمر، فليس ثمة مرشح مؤهل لهذا الموقع غيري… ولن أفعل ما يمس أو ما يؤثر سلباً على وصولي إلى مثل هذه الزعامة، فأنا سأترك الرئاسة وأنا في شرخ شبابي، فهل يراد مني بعدها أن أعيش كمتقاعد مثل الفرد نقاش، أو “كمهجر” مثل الياس سركيس؟! أبداً، ذلك لن يكون، وسأحفظ مكاني ومكانتي في لبنان بأي ثمن… وبين حقوقي إذن أن أحفظ لنفسي دور الناخب الأكبر في معركة الرئاسة، وأن أضمن ألا يجيء من يخرج على خطي ويهدم ما بنيته ويمس ما لا يمس من حقوقنا وضماناتنا في لبنان”…
ترى هل مثل هذه “الهموم” تعني، فعلياً، الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، والرئيس المصري حسني مبارك، ورئيس دولة الإمارات المتحدة الشيخ زايد بن سلطان، والملك الأردني حسين وسائر الملوك والرؤساء العرب؟!
وهل هي تعني المسؤولين الكنديين والأميركيين والسويسريين والألمان الغربيين، ناهيك بالفرنسيين الذين لم يخسروا حتى اتصالاً هاتفياً ومن باب اللياقة على أي مرجع في الدولة اللبنانية وهم يتممون صفقة إطلاق الرهينتين، بكل ما وراءها، وما وراءها كثير كما تدل أخبار الأمس وكما ستدل أخبار الغد؟!
مرة أخرى يعيد السؤال طرح ذاته: إلى أين بعد بون وميونيخ وباريس كـ “محطة تقنية”؟!
وإلى متى سيظل الوضع معلقاً بين محطة مغادرة ومحطة وصول في البلاد البعيدة بعقلها وقلبها وموقعها عن مأساتنا؟!
وهل يستطيع أمين الجميل أن يمضي الشهور الصعبة الأخيرة من ولايته التي لن ننسى في جولات غير مبررة تزيد من تعقيد الأوضاع في لبنان، هارباً من مواجهة مسؤولياته وموفراً باب الهرب للآخرين بينما الخراب ينهش البلاد وأهلها كل يوم، بل كل لحظة، والدولة تصبح أثراً بعد عين… برغم طوابير الشرف في المطارات الغريبة؟!
ومتى سيتحرك “المعارضون” شرقاً وغرباً لإلزام أمين الجميل بمواجهة مسؤولياته كرئيس للجمهورية، بغض النظر عن الرأي فيه وفي تصرفاته؟!
إنه “المسؤول” الأول والأخير، فلماذا تموّه وتضيع هذه الحقيقة؟!
لماذا يعفى من مسؤولياته بذريعة الاعتراض عليه أو معارضته أو عدم الاعتراف به رئيساً؟!
… ومتى “يعود” الآخرون، كل الآخرين، معارضين ومقاطعين ومعترضين وعقلاء وحكماء، من غربتهم فيتحملون مسؤولياتهم.
وأول الشروط: أن يحملوه مسؤوليته، فلا يظل لبنان رهينة محتجزة يدور بها مختطفها بين المطارات في القارات جميعاً؟!
متى ننتقل من اللوم إلى المحاسبة… محاسبة الجميع؟
… علماً بأن مثل هذا الانتقال قد يشكل بداية خروج من اليأس والقنوط والإحباط إلى الاهتمام بفتح باب الأمل بغد، أي غد، بدلاً من التمادي في البكاء على أطلال أيامنا الضائعة.
ذلك هو السؤال، وهو غير موجه – بالتأكيد – إلى الرئيس الطائر!

Exit mobile version