طلال سلمان

على الطريق الرئيس الثاني للعهد الأول

ما أقصر الزمن وما أبعد المسافة بين الأحد في الخامس من تشرين الثاني والجمعة في الرابع والعشرين من الشهر نفسه، من العام نفسه 1989.
خلال ثلاثة أسابيع إلا قليلاً، شهد هذا البلد الصغير العظيم الأحزان نهاية وبداية ثلاثة “عهود”، وهو يسعى جاهداً لإيجاد “مهرب” من الحرب التي تكاد تنهيه.
ولقد تحول رينيه معوض من رئيس إلى صوت صارخ في البرية: إن أنقذوا لبنان وشعبه! حاربوا الحرب وانتصروا على المترئسين باسمها، وغاصبي الشرعية باستيلادها من الفراغ!
وبهذا الصوت رجحت كفة الياس الهراوي، “منافس” رينيه معوض في القليعات باسم الديموقراطية وتوكيداً لها. لكأنما رد له الجميل، أمس، فاستأمنه على وصيته، على دمه، ومضى…
لا عواطف في السياسة، لا عواطف في المواقف، لا عواطف في الانتخابات، لكن الدم المسفوك ظلماً وغيلة يحفر لنفسه حجراً في الضمائر، ويتحول إلى قبيس يهدي إلى سواء السبيل.
ولقد أطل رينيه معوض من خطاب القسم الذي ألقاه الياس الهراوي وعداً بإنهاء الحالة الشاذة التي هدرت دماء الكثير من اللبنانيين، وصولاً إلى رئيس جمهوريتهم الجديدة، جمهورية الوفاق الوطني بالدم العربي الزكي… دم أهل الطائف جميعاً، الحاضر منهم والغائب والمشيح بوجهه على الناحية الأخرى حتى يدعي إنه لم ير.
لكن ذلك حديث آخر، فلنصف وقائع الهزيع الأول من الليلة الرئاسية الثانية في “شتورة بارك أوتيل” التي جددت صورة العهد الجديد.
اتبع الجند تصل إلى الحشد، اخترق حشد الأطواق الأمنية والمرافقين تبلغ باب الفندق الذي يرمز اسمه وتاريخه إلى عصر الازدهار والرخاء الذي ثبت، من بعد، إنه كان يختزن الحرب الأهلية.
تعبر البوابة الرئيسية فإذا القوم خليط من النواب والضباط و”العيون” وأجهزة المجلس التي تكاد تكون صورة مصغرة لأجهزة الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية كافة.
والنواب هم الموضوع وهم حملة الأمانة ومستودع السر الذي سيكون قراراً لبدء مرحلة جديدة بعد ساعات.
كانوا شتاتاً من الحائرين في الصباح، أمضهم الانتظار والحصار الذي شده من حولهم الخوف عليهم من اعتداء محتمل، وكانوا يفتقدون جو المصارعة، وإن لم يضعف إصرارهم على التوافق: لماذا التهامس في الأركان والزوايا؟! لنجلس وجهاً إلى وجه فيكون ما نريده. المهمة محددة سلفاً وخط السير كان حبراً على ورق في الطائف، فصار نهجاً معمداً بالدم في بيروت. ولم يبق إلا أن يقوم من بيننا “الفدائي” القادر على أداء المهمة وينادينا فنلبيه.
لم يكن ثمة مرشحون بالمعنى الفعلي، كانت ثمة أسماء متداولة محدودة بحكم اللحظة السياسية الراهنة. مخايل ضاهر، بيار حلو، الياس الهراوي، ادمون رزق، لك أن ترتبها كما تشاء، لكن الإضافة من الخارج ممنوعة. للمجلس بعد الطائف عصبية حادة، وقد اكتسبت سمات “عنصرية” بعد استشهاد رينيه معوض، منا الشهيد، فإذن منا الرئيس.
تجمعوا، أعطت الكثرة زخماً للجدل، لكنهم كانوا يعرفون جميعاً أن للمكان صوته المرجح، في القليعات كان طبيعياً انتخاب “شمالي”، وفي شتورة الأقرب إلى المنطق انتخاب “بقاعي”، وفي أي حال ففي المساء لم يتقدم إلاه. كانت لدى البعض الرغبة من دون القدرة، ولدى البعض الآخر النية من دون الحركة، وكان البعض الثالث مستنكفاً ورافضاً برغم إنه مطلوب.
وكما في المرة الماضية أمضوا يوماً طويلاً من الانتظار الثقيل مطته مقتضيات الأمن والمجيء من البعيد إلى يومين متصلين، تنقلوا خلالهما وتنقلت “الجلسة”، ما بين بعلبك ورياق وأبلح، حتى استقرت في الفندق ذي الذكريات في شتورة التي كانت مصيفاً صغيراً فصارت مدينة حديثة كبيرة تشلها الحرب كما في لبنان.
مع المغيب كان عقد نصابهم قد اكتمل، وصل القادمون من طرابلس والكورة وجزين، ثم جاء الرئيس صائب سلام من جنيف عبر دمشق، وأخيراً وصل “التسعة” المنتظرون الاتون من باريس عبر دمشق أيضاً، وقد استقبلهم في مطارها وواكبهم حتى الفندق، ثم رعى اجتماعهم فيه، ممثلان للجنة العربية الثلاثية (سفير السعودية في دمشق أحمد الكحيمي والقائم بأعمال السفارة المغربية فيها)ز
لم يضيعوا الوقت، ارتاحوا قليلاً، تشاروا قليلاً، تهامسوا طويلاً، لاسيما في الأجنحة العليا، ثم هبطوا وتوجهوا نحو القاعة ليقولوا الكلمة المعروفة.
فعل الانتخاب هو الأهم، من بعد يأتي الرئيس. لكن الانتخاب يشمل ضمناً الحكومة، وقراراتها الأولى المرجأة والتي لا بد من إعلانها الآن. دخلوا القاعة يحف بهم الحرس. كان العمل قد فرغوا للتو من تحويل المطعم إلى “ندوة” نيابية، وزينوا صدرها بالعلم، ثم استدركوا باقات الزهور في اللحظة الأخيرة. جلسوا على المقاعد الجلدية الخضراء المرصوفة متجاورة، في حين اعتلت الرئاسة منصتها على “مصطبة” ترتفع نحو متر على أرض القاعة الأنيقة الرياش، كرج الروتين قرعت القارعة، فتحت الجلسة. الوقوف حداداً. تليت المواد الدستورية المحددة لطبيعة الجلسة ومهمتها، وقف ادمون رزق. قال إن بعضاً من زملائه قد تمنى عليه أن يرشح نفسه، لكنه تقديراً منه لحراجة الظروف، وإسهاماً منه في توفير الإجماع الضروري لانطلاقة العهد بكل الزخم الممكن يعلن إنه غير مرشح. دارت الصندوقة على النواب، بينما إحسان أبو خليل يقرأ أسماءهم غيباً بصوته الجمهوري. وضعت الأوراق. جيء بالصندوقة إلى منصة مجاورة، تولى صالح الخير ونجاح واكيم مهمة الفرز والقراءة. عطلت الأوراق البيضاء الإجماع وإمكان الفوز في الدورة الأولى. دارت الصندوقة مرة أخرى. فرزت الأوراق. أعلنت فوز الفائز سلفاً. هنأه جرانه وزملاؤه من الموارنة المستقلين. قطع المسافة بين مقعده في الصف الأخير والمنصة الرئاسية. رفع يمنانه. أدى القسم. سحب الخطاب من جيبه. ألقاه واقفاً ومستوقفاً، لضيق المكان، الرئيس وأميني السر. صار الياس الهراوي رئيساً للجمهورية. تلقى التهاني قبلات وتمنيات. وردها وعوداً وتعهدات، وتوكيداً بأداء المهمة. صعد إلى جناحه. وبعدما انفض موكب المهنئين جاءه الرئيس سليم الحص، وبدأت “المشاورات” من حيث توقفت في القصر الحكومي، ذلك الظهر الدامي من يوم الاستقلال… أو هكذا يفترض.
قرع الجرس من جديد، التأم عقد النواب مرة أخرى في القاعة نفسها، افتتحت الجلسة. قرأت عريضة التمديد لأربع سنوات. أقرت صفة المعجل. أقر نص التمديد، كافأ المجلس نوابه ببوليصة تأمين على حياتهم ودورهم المتجدد والمكتسب أهمية استثنائية في هذه المرحلة الحرجة.
إلى العشاء أيها المتعبون . عافاكم الله أيها الدائمون.
أما في جناح “الرئيس” فقد خفتت الأصوات تدريجياً وتناقص عدد الداخلين إليه، وهبت رياح الهمس الحميم!
بعد 13 سنة عادوا إليه: شتورة بارك أوتيل. لا هو كما كان ولا هم هم، فالفندق المجدد والمغلق على تحسيناته في انتظار العهد الجديد سبق أن استقبلهم ذات يوم في صيف العام 76، وفيه أقسم الياس سركيس اليمين الدستورية كرئيس جاء ومعه الوعد بانتهاء ما بات يعرف الآن بحرب السنتينز
ولقد فتحت الحرب المستطيلة سنوات طويلة بعد الـ 76 أبواب الفندق “المهجور”، يوم أمس، استثناء ليستضيف مرة أخرى المجلس ذاته، الذي لا يكف برغم طول العمر عن الولادة: يولد الرئاسات، يولد ذاته، وغداً سيولد من يكمل هيئته ويضيف إليها، ولا البهجة، والذكريات وحدها تثير الأحزاب. وصور المشاهير لا تعوض حضورهم.
والنواب بأكثريتهم هم هم. غاب البعض نهائياً، وغاب البعض اضطراراً، والذين جاؤوا كانوا يفتقدون الحيوية وتنوء ظهورهم بالاعمار، وبالهوم الثقيلة: هموم الأمس، هموم اليوم، هموم الغد، الهموم الشخصية وهموم المصير العام.
لقد نقص عديدهم بمقدار الربع، أو أكثر قليلاً، لكن النقص في الروح المعنوية أفدح. لكنهم قرروا أن يصمدوا، أن يقبلوا التحدي ويردوا عليه… والباقي على الله وعلى غيرهم من “الأقوياء” و”الأصحاء” في القريب والبعيد.
ليس أمراً مبهجاً أن تشهد انتخاب رئيسين خلال أقل من ثلاثة أسابيع.
الإعادة محزنة، والمقارنات تفرض نفسها فتزيد من أحزان الشعب الصغير.
أول رئيس من البقاع… لكن مهمته استعادة الجمهورية لا حكمها أخيراً وصلت الرئاسة إلى زحلة، لكن زحلة مشطورة العقل والقلب. تتجاذبها المصالح والغرائز الطائفية. فتدمغ سلوكيتها بمزيد من النفاق والانتهازية. ولقد تعزز الرئاسة ابن “ضاحيتها”. حوش الأمراء، التي كانت من قبل “حوش النور”. تعاليها على أهل الذين ارتضوها عاصمة لهم… إلا إذا غلب “الرئيس” الإنصاف على العصبية، والعدالة على صلة القربى.
الياس الهراوي غير رينيه معوض، هو ذاته كان يقدمه على نفسه. وهو الآن يحمل ثأره، فعلى عادة القبائل والعشائر العربية تمت تسمية الخلف قبل دفن السلف لضمان استمرارية السلطة والثبات على النهج، وعلى طريق اتفاق الطائف جاء الياس الهراوي أيضاً، وجاء من الأطراف “كسلفه”، ذاك من عرين المارونية الأول، وهذا ماروني من عرين الكاثوليكية الأول في لبنان.
واستناداً إلى اتفاق الطائف، وبدعم من القوى ذاتها التي هيأت الفرصة لتوافق اللبنانيين على صورة غدهم السياسي، سيحاول الياس الهراوي أن يصل ما انقطع، وأن يكمل ما بدأت رينيه معوض: حكومة الوفاق الوطني بصيغتها شبه النهائية التي كانت أقرت قبل دقائق من تفجير العهد الجديد.
الرجل غير الرجل، والخطاب غير الخطاب، وبرغم إن المعاني في مجملها هي ذاتها، إلا أن الكاتب قد اختلف، والمضمر قد زاد على المعلن… وصحيح إن النبرة كانت أقوى، غير إن السهو قد أسقط ما لا يجوز سقوطه، كمثل المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، كما إن السرعة أو الرغبة في المصالحة قد أضعفت صياغة مواقف تتصل ببعض الثوابت ، كموجبات الانتماء القومي، وبينها وليس خارجها، طبيعة العلاقة مع سوريا.
مع انتهاء الدوام، سرت همهمات استهجان: لماذا الارجاء؟ لماذا التمهل؟ ألا يكفينا درس مأساة الأربعاء الأسود؟
كان “الجمهور” يريد حسماً فورياً لأمر الحكومة: تشكيلها ومنحها الثقة لتمكينها من مباشرة العمل لإزالة “اللغم القاتل” من على طريق الجمهورية الجديدة.
وكان الرد بالمثل الدارج: شر الصباح ولا خير المساء، وبعض الساعات ضرورية لشيء من المشاورات، لكن قرار المواجهة متخذ، والعزم على التنفيذ قائم… ولا بأس من بعض الوقت لكي تحزم “الجبهة اللبنانية” أمرها فلا يكون غياب رئيسها عن الانتخاب معارضة أو اعتراضاً أو امتناعاً عن المشاركة في العهد المجدد وأعبائه الثقيلة.
ولعل وداع الرئيس الشهيد قد أبطأ الخطو، إذ أنه قد يمنح عهده الجديد الذي آل إلى غيره ما يوفر له المزيد من الزخم لانطلاقة صحيحة.

Exit mobile version