طلال سلمان

على الطريق الديمقراطية بالأمر والهوية بالاستنتاج!

هل آن الأوان لفتح ملف العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الوطن العربي، انطلاقاً من الدروس والعبر ا لتي خلفتها الهزيمة البشعة التي ألحقها بالعرب جميعاً الطاغية صدام حسين؟!
أغلب الظن إنه الوقت المناسب…
فقد صدر الأمر الذي لا يناقش ولا يرد فسبقت بشائر الديموقراطية الربيع إلى مختلف أصقاع الوطن العربي، بما في ذلك الصحارى والبوادي والقفار، وصولاً إلى بين النهرين!
ولقد بدأ التنفيذ على الفور: كاريكاتورياً في لبنان، وممسوخاً في عراق صدام حسين، وبعملية قيصرية غير مضمونة النتائج بعد في كويت الأرض والتجربة السياسية المحروقة.
من قبل مُنح أنور السادات شرف الريادة (!!) في هذا المضمار، فكانت “المنابر” أو “النوادي” أو المعارضات المحنطة هي الوجه الآخر، أو هي الرشوة، أو هي التمويه الضروري لمعاهدة الصلح المنفرد مع العدو الصهيوني!
… حتى لقد بدت الديموقراطية نتيجة منطقية للتخلي عن الهوية القومية وموجباتها: لكأنما الملتزم بتحرير فلسطين وانتمائه العربي وحقه في التقدم هو طاغية أو عبد لطاغية يسحق إنسانيته ويلغي حقوقه كمواطن بل كإنسان، ولكأنما “التحرر” من الارتباط بالأرض والتاريخ، الماضي والمستقبلن والاستسلام أمام المشروع الإسرائيلي والخضوع للهيمنة الأميركية هو الطريق إلى الحرية والسعادة والكرامة الإنسانية!
“على الكويت فتح مجتمعها والتزام حقوق الإنسان”… هكذا قالت واشنطن، فقبل الأمير استقالة حكومة ابن عمه وولي عهده وأعاد تكليفه بتشكيلها مطابقة للمواصفات الديموقراطية التي حددها جيمس بايكر حين جاء يحصد نتائج الانتصار الأميركي التاريخي ويرسي دعائم المستقبل للغد العربي الأفضل!
أما النظام العراقي فقد سارع يعلن بلسان رئيس “برلمانه” إيمانه بالتعددية الحزبية والدستور والرجوع إلى الشعب لكي يملي إرادته بالاستفتاء العام!
لا فرقن هنا، بين “منتصر” و”مهزوم”،
فالنظامان العدوان والمقتتلان يتحركان كجنديين منضبطين لتنفيذ الأمر الأميركي الصارم بتحقيق الديموقراطية، تحت رعاية الجنرال شوارزكوفن
… والسفير الأميركي في الكويت لا يكتفي بمراقبة سلامة توزيع الخبز على الرعايا الجياع، لكنه يهتم أيضاً بسلامة “الوافدين العرب” الذين يلاقون بعض الاضطهاد “ويزود الحكومة باسماء جنود كويتيين اعتدوا على فلسطينيين” في الإمارة التي لعب فيها عرق الجباه والزنود السمراء للعمال العرب دوراً لا يقل عن دور النفط الذي أتت به مصادفة جيولوجية.
وهكذا فالأميركي ليس فقط ضمانة للديموقراطية وحقوق المواطن، وإنما هو أيضاً مصدر الحماية للعربي من “أخيه” العربي، على مستوى الدول كما على مستوى الأفراد.
وفي الكتابات الصحافية الأميركية، كما في المشاهد الحية التي بثتها شبكات التلفزة الأميركية، صور في غاية البشاعة لممارسة “المواطنين” و”المدنيين” العرب تجاه “إخوانهم” المستضعفين بالهزيمة، ولقد تملى المشاهدون، بشيء من الذعر والتقزز، الصور المهينة “للمقاومين” الكويتيين وهم يتقافزون كالكومبارس في فيلم كاوبوي رديء ، خلال مطاردتهم لفلسطيني معدم أو لعراقي ما أقام في الكويت وبقي فيها (بعد الحرب) إلا هرباً من “مآثر” صدام حسين وعدله!!
كذلك فإن وكالات الأنباء العالمية قد طيرت المئات من الصور المهينة لجنود عرب (وفقط عرب!!) يشهرون السلاح في وجوه جنود عرب معادين، وقد رفع هؤلاء أيديهم فوق رؤوسهم استسلاماً، أو انبطحوا على الأرض يمرغون كرامتهم بالتراب حفظاً لحياتهم!
تلك هي الحرب في أي حال، وعلى المغلوب أن يدفع الثمن، سواء اتبدى على شكل رضوخ للشروط السياسية المذلة، كما فعل صدام المهزوم، أم على شكل تقبيل يد (أو قدم) الجندي الأجنبي المنتصر!
لكن ما يتجاوز الحرب وذل الهزيمة هو الموضوع،
فعلى قاعدة نتائج الهزيمة: العرب هم المهزومون والأميركي هو وحده المنتصر، يتم التأسيس الآن لمجتمعات “عربية” – افتراضاً – مثقلة بالأحقاد والضغائن والكراهية، تفضل بين كل منها والآخر خنادق من دم و”تناقضات” في المصالح تمنعها من التلاقي والتنسيق والتعاون، فكيف بالتكامل، مثلاً، في الحاضر كما في المستقبل.
لكل قطر ارتباطه المباشر بواشنطن، وممنوع أن يكون للمتماثلين في الموقف أو في الرؤية ارتباط “جماعي” ككتلة أو كمجموعة ، فالعرب آحاد، فرادى، وليسوا أبناء تاريخ واحد ولغة واحدة ودين واحد وارض واحدة وطموحات مشتركة. العراقي عراقي حتى العظم، والكويتي كويتي، والفلسطيني فلسطيني الخ… وبين كل عربيين بحر من الكراهية والدم وجدار من العداء الذي لا يزول، بحيث تنتفي رابطة العروبة تماماً أو تتحول إلى عبء أو وصمة عار يحاول كل أن يبرأ بنفسه منها.
كذلك فلواشنطن الحق في أن تتواجد وتؤثر في القصر كما في الشارع. علاقتها تتجاوز الحاكم إلى المحكوم، بل إنها هي التي تتولى “تنظيم” العلاقة بين الحاكم وبين المحكوم وتكون المرجع الصالح ومصدر الاصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية،
ثم إنها هي التي تنظم العلاقة في ما بين العرب، طالما إنهم أعجز من أن يحافظوا على حدها الأدنى في حين هم يرفعون عقيرتهم بالحد الأقصى… فكثيراً ما ذهب العربي إلى الحرب ضد أخيه العربي، بينما هو يرفع شعار الوحدة!!
ماذا يعني هذا؟!
إنه يعني، في جملة ما يعنيه المزيد من النقص في جدارة العربي وفي أهليته.
فالعربي ليس مجرد بدوي يركب الجمل ويقطن الخيمة ولم يتصل بالعصر وحضارته.
وهو ليس عدائياً تجاه “الآخر” ، تجاه الغرب مثلاً، بل هو عدائي تجاه أخيه وتجاه ذاته،
وباختصار فإنه قاصر ومتخلف ودموي ومتوحش وبحاجة إلى تحضير، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم، ولذا فلا بد من “ولي جبري” على الحاكم والمحكوم معاً، ولا بد من “انتداب” يؤهل هذه الشعوب المتخلفة للاستقلال ولحسن استخدام ثرواتها الطائلة التي جاءتها قدرياً، فلا هي بذلت جهداً للحصول عليها ولا هي كفؤة للتصرف بها، فكيف إذا كانت الثروة سلعة استراتيجية يتوقف عليها تقدم المجتمع الإنساني؟!
حتى “التحالف” مع السيد الأميركي لم ينفع في تبديل هذه النظرة، بل هو على النقيض من ذلك تماماً: أكدها وأمدها بالحيثيات والمبررات القاطعة.
فهذا “التحالف” لم يشفع لأصدقاء واشنطن من الحكام العرب في التستر على مباذلهم الشخصية وخطاياهم وأخطائهم السياسية… بل لعل هذا “التحالف” كان مناسبة لكي تعلن واشنطن رأيها فيهم!
وإذا كان صدام حسين، بطغيانه الدموي في الداخل، وبمغامراته العسكرية المجنونة ضد الجوار، قد وفر النموذج للعدو الخائب والمهزوم والمرفوض شعبياً، فإن الحكام العرب الآخرين – وبالتحديد في الكويت وسائر الخليج والجزيرة – ليسوا في نظرها النقيض المطلوب، وليسوا القدوة الصالحة، ولا هم يستحقون شرف التبني الأميركي لهم.
ومن خلال المسلك الأميركي المعلن يبدو إن واشنطن قد فرضت على هؤلاء ، وبدءاً بالكويت، أن يتغيروا وإلا غيروا (أو غيرتهم مباشرة)…
لعل الذكرى تنفع…
بعد إعلان استقلال الكويت وقيام “الدولة” فيها، استقدمت الأسرة الحاكمة من القاهرة خبيراً محترماً في القانون الدستوري هو الدكتور عثمان خليل، الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد السنهوري العظيم.
ولقد حاول هذا الخبير أن يضع دستوراً لملكية دستورية، لكن ضغوط “الجوار” عدلت في نتائج عمله، كذلك فإن الميل الغريزي إلى احتكار السلطة (والثروة) دفع أبناء الشيوخ من آل الصباح، الذين تحولوا إلى أسرة ملكية حاكمة، إلى التدخل لتطويع الدستور لأغراضهم وسط اعتراضات جدية من جمهرة الكويتيين، خصوصاً وإن بين أسرهم من تعتبر نفسها أعرق وأجدر من آل الصباح بالحكم.
ولقد استمرت هذه الضغوط والمداخلات في التأثير سلبياً حتى “طار” الدستور، وأوقف العمل به، وعاد آل السباح يحكمون حكماً مباشراً (بل ويحتكرون السلطة) مستخدمين “الحق التاريخي” إذ رأوا إنهم لا يقلون عن “نظرائهم” الذين يحكم بعضهم باسم “حق الفتح” والبعض الآخر باسم “النسب الشريف”.
ومن المفارقات الملفتة إن الكويت في بداية عهدها بالاستقلال كانت أكثر ديموقراطية وأكثر عروبة وأكثر تواضعاً (وفهماً لطبيعة أوضاعها) من كويت العام 1990.
فأبو الاستقلال (والدولة، والنفط) المرحوم الشيخ عبد الله السالم الصباح كان يحمل لقب “شيخ العود”، وإنه كان كالبطريرك بين المطارنة: متقدم بين متساوين، وقد استمر يعيش حياته البسيطة كشيخ طيب لقبيلة تراعي في ممارسة السلطة إنها منحت هذا الشرف كتسوية وليس كحق إلهي مطلق، وإن “رعيتها” تماثلها نسباً ومحتداً ومكانة ووزناً قبلياً.
وعشية الغزو العراقي للكويت كان “الشعب” قد صار “معارضة”، وكانت الأسرة الحاكمة تتربع على قمة نظام بوليسي باشر مهمته القمعية ضد “الوافد”، وبالتحديد “العربي”، وانتهى بأن سجن المعارضين وفيهم نخبة من رجالات الكويت ومن رموز نهضتها وجدارتها بالمكانة السياسية والإعلامية والاقتصادية التي تبوأتها على المستوى العربي، بمعزل عن النفط وفعله “السحري”!
من أنت؟!!
مرة أخرى، وبإلحاح صريح تفرض التساؤلات نفسها:
*هل آن الأوان لفتح ملف العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الوطن العربي، انطلاقاً من الدروس والعبر التي خلفتها الهزيمة الشنيعة التي ألحقها بالعرب جميعاً حاكم طاغية هو صدام حسين؟!
*وهل تسمح الظروف الدقيقة والتطورات المتسارعة والتحولات الخطيرة التي يعيشها “المجتمع العربي” بفتح باب المناقشة في بعض ما كان يعتبر مسلمات وبديهيات، وكذلك في ما كان يعتبر على الدوام من المحرمات والمحظورات التي لا يجوز تداولها أو التداول فيها؟!
*هل نسلم بما يكرس الآن كقاعدة من إن الطغيان سمة عربية دائمة وإن الديموقراطية وسائر حقوق الإنسان “هبة” غربية وافدة، لا تجيء العرب إلا مترادفة مع هزيمتهم، من أيام حملة نابوليون على مصر إلى حملة جورج بوش (وجون مايجر) على العراق؟!
*هل ننتظر تطبيق الديموقراطية عربياً بالأمر الأميركي الصريح، فنظل في موقع القطيع بالنسبة للأجنبي (المنتصر علينا)، كما كنا بالنسبة للحاكم الجائر المتمكن فينا بالقهر والقمع الدموي متى لزم الأمر؟!
*ثم هل نترك للأجنبي أن يقرر لنا هويتنا، وما إذا كانت، عروبتنا وروابطنا المشتركة مجرد “أوهام” أم حقائق استولدها التاريخ ونمتها المصالح إضافة إلى الأرض ومكونات الوجدان؟!
*وهل الأجنبي أقرب إلى كل منا (على حدة)، واحرص على كل منا (على حدة) منا على بعضنا البعض؟!
*هل يكفي طاغية كصدام حسين لينسف ما تربينا عليه، وآمنا به وناضل آباؤنا وقبلهم أجدادنا من أجله، “فنكتشف” متآخرين وعلى ضوء الكشافات الأميركية إننا قبائل وشعوب متباغضة ومتناحرة ومتناقضة المصالح لا يجمع بينها جامع ولا يمكنها أن تحقق كرامتها إلا إذا تنكرت لأصولها وتراثها وموروثها ولون بشرتها… الداكن؟!
هذه أسئلة جدية يطرحها الواقع السياسي القائم واحتمالات تطوره، وليست “نزهة فكرية” أو تداعيات ذهنية يستولدها السأم أو القلق وعدم الاطمئنان إلى وضوح صورة الغد.
وعلى كل عربي، أن يشغل نفسه بهذه الأسئلة، وغيرها كثير، التي من شأن أجوبتها متى توافرت أن “توضح” له: من هو، ما هي بلاده، ولمن بلاده، وأين موقعه في بلاده، واين حقوقه فيها… ثم ما هو مستقبله في ظل غموض حاضره البائس وانهيار مرتكزات اليقين… الماضي!!
أتراها تكون الهوية بالاستنتاج؟!!

Exit mobile version