طلال سلمان

على الطريق الدوائر الثلاث: الهجوم المضاد!

قبل أربعين عاماً كتب ضابط مصري شاب عائد من ميدان الهزيمة العربية الأولى في فلسطين، ما يفيد بأنك يجب أن تعرف أرضك وحلفاءك قبل الذهاب لمواجهة عدوك.
وعلى أساس تلك النظرية عمل جمال عبد الناصر، وما وسعه الجهد، من أجل استنهاض العرب وأشقائهم في الأرض و المصير الأفارقة، وإخوتهم في الدين، المسلمين، لكي يواجهوا معاً الحملة الصليبة الجديدة الآتية الآن تحت رايات الحركة الصهيونية وباسم “الحق التاريخي” لشعب الله المختار في أرض الميعاد، مكررة التزوير نفسه، مستنجدة بخرافات مماثلة لارتكاب الجريمة ذاتها وضد أصحاب الأرض أنفسهم.
“الدوائر الثلاث”: العربية والأفريقية والإسلامية، هكذا حدد جمال عبد الناصر جدول أعمال الثورة التي قادها، في صيف العام 1952، نتيجة إحساسه العميق بطبيعة المعركة التي يفرضها الاجتياح الصهيوني لهذه المنطقة انطلاقاً من فلسطين، ونتيجة إدراكه طبيعة المشروع “الغربي” واستهدافاته المهددة لطموحات الشعوب المناضلة من أجل الخبز والكرامة والحرية والاستقلال على امتداد العالم القديم”.
لعل ذلك القائد الفذ، برؤياه التاريخية النافذة، كان الأول والأدق في تحديد أطراف الحرب وأبعادها العميقة والشاملة والمتجاوزة العمليات العسكرية التي عاش في ظلالها الكئيبة مقاتلاً في الفالوجة.
لم يكن العد ليتمثل فقط في أولئك المجندين سواء في “جيش الدفاع الإسرائيلي” أو في التنظيمات العسكرية الصهيونية التي ظلت خارجها للاحتفاظ بحرية حركة غير محدودة بحيث تستطيع أن تقتل وتبيد الأهالي في القرى والمدن وتهجر تحت ضغط الرعب من تبقى في الجوار، بغير أن تخضع لمحاسبة تلطخ وجه “الدولة” الوليدة والقوى المساندة لها.
كان العدو كل من احتشد بالدعم والتأييد، بالمال والسلاح والرجال، وراء المشروع الصليبي الجديد، رافع نجمة داوود الآن، بدلاً من الصليب العتيق.
أي أنه الغرب جميعاً، بمن في ذلك الاتحاد السوفياتي والذي ظل حتى اللحظة الأخيرة يأمل في استقطاب المشروع الصهيوني وفي احتوائه وجذبه إلى التحالف معه، بدلاً من “الغرب الاستعماري” صاحب التاريخ الأسود على امتداد “الدوائر الثلاث” التي حددها لاحقاً جمال عبد الناصر وتوجه إليها منبهاً وداعياً لليقظة والنهضة واستعادة الوعي والدور.
لماذا هذا الحديث عن “المنسي” بالأمر، والمطموسة ذكراه، والمشطوب من ذاكرة الأجيال، جمال عبد الناصر، الآن؟!
الأمر يتجاوز التحية في الذكرى الثالثة والعشرين لغيابه، فليست الأمة من عبدة الأصنام، وهي كانت قبله ومستمرة بعده وقد اغتنت بتجربته العظيمة فكبرت به وأحلته في وجدانها حادياً لنضالاتها من أجل غدها الأفضل مع الوهي بأخطاء نظامه وبخطيئة الاعتماد على فرد وتكره وحيداً في القرار،
الأمر يتصل بهذه الدورة العكسية التي يقوم بها ياسر عرفات لاستجلاب التأييد “الإسلامي” بعد “العربي” لاتفاقه مع إسحق رابين.
لقد سعى جمال عبد الناصر لأن يأتي بالعرب جميعاً وبالأفارقة جميعاً والمسلمين جميعاً إلى أرض فلسطين لمواجهة الاستعمار الاستيطاني الجديد القادم من الغرب، باسمه وأهدافه وشعاراته، والذي يريد أن يقيم مشروعه الإمبراطوري فوق بلادهم جميعاً كوريث “شرعي” للاستعمار الغربي القديم وإمبراطورياته المتهالكة.
وها هو ياسر عرفات، وبعد أربعين سنة، يذهب بكوفية فلسطين إلى هؤلاء جميعأً ليجيء بهم إلى المشروع الإسرائيلي.
وبرغم أن هؤلاء ليسوا، في الغالب الأعم، أسياد قرارهم، بل هم يخضعون وينفذون ما تريده واشنطن، فلا بد أنهم كانوا سيتحفظون، أو ربما سيعترضون، وفي كل الحالات سيمتنعون عن إظهار الحماسة والتأييد للاتفاق الغربي الذي يجعل فلسطين بعض ضواحي المشروع الصهيوني ويجعل من الفلسطينيين سماسرة ومروجين ودعاة لهذا المشروع في محاولته اختراق النسيج الاجتماعي لهذه الدوائر “الناصرية” الثلاث.
وفلسطين في هذه الدوائر وهي في موقع القلب منها، لكن الأمة هي الأبقى، ووجودها الآن هو المهدد… وهي قد قاتلت طويلاً في فلسطين لحماية ذاتها ومحيطها، وما زالت أمامها جولات وحروب هائلة،
ولا يكفي توقيع ياسر عرفات لا في مسح تاريخها، ولا في طمأنتها على مستقبلها.
لكن هذا التوقيع يعيد توليد تلك الحقائق التي توصل إلى اكتشافها، عبر المعاناة والجراح والنار، ضابط مصري شاب قبل أربعين عاماًن فصنع للأمة وبالأمة تاريخاً جديداً اغتيل قبل اكتماله.
مرة أخرى، تبدو هذه المنطقة، وبدوائرها الثلاث، عند حافة النهايات، ويتبلور دور باحث عن “بطل”،
لكن البطل هذه المرة لن يكون فرداً واحداً ولا يجون أن يكون!
عرب بلا فلسطين
كيف تستأصل الشرايين من الجسد، ثم تتحدث عن الصحة؟
كيف تفرغ الشرايين من الدم، وتفترض ذلك مزيداً من العافية؟!
إن انتزاع فلسطين من الموقع الذي أحلتها فيه الأمة ليس مجرد “غياب” واحد من أعضاء الأسرة.
إن اغتيال فلسطين المستوطنة وجدان الأمة والصائغة لغتها والملخصة نضالاتها، أمر أخطر من أن يعتبر مسألة داخلية فلسطينية يستطيع أن يقرر فيها ياسر عرفات ومحمود عباس وأمثالهما.
إن العرب ليسوا العرب بلا فلسطين،
إن سوريا بغير فلسطين بلد آخر غير ما عرفها العالم وغير ما عرفت نفسها على امتداد عقود من الزمن،
ولبنان بغير فلسطين هو بلد أشوه.
لقد كان شعبه يفترض انه إنما يقدم تجربته لإخوانه الفلسطينيين لكي يطوروها ويستكملوا النقص فيها ويقدموها إلى العالم (وإلى العرب) كفتح جديد في صياغة العلاقات الإنسانية وكنموذج فريد في الفكر السياسي.
وما حدث أن ياسر عرفات أخذ كل عيوب الحكم اللبناني، وهو المطعون به لفئويته وشخصيانيته وتخلفه، وترك كل المزايا التي كان يطمح إلى تحقيقها في ذاته المجتمع اللبناني.
وما يتباهى به عرفات اليوم أنه قد “حكم” لبنان، وأنه بالتالي قادر على أن يحكم غزة ومعها أريحا.
أي أنه يهدد الفلسطينيين بأسوا ما يحفل به تاريخ لبنان الحديث، وبالكابوس الذي يحاول اللبنانيون الخروج من إساره.
لقد استقبل اللبنانيون من “الفدائيين” الثورة العربية في فلسطين، وانطلاقاً منها، فإذا بخطايا الحكم اللبناني و”الحكم” الفلسطيني تسحب الشعبين الشقيقين إلى أتون حرب أهلية في بعض جوانبها، عربية – عربية في جوانبها الأخرى، وممر لاجتياح إسرائيلي شامل دمّر “الثورة”ومجتمع العيش المشترك وفكرة مصالحة الأمة مع ذاتها وتجاوزها لاسباب الانقسام على قاعدة الأديان والطوائف والمذاهب والكيانيات العنصرية…
وكل عربي يعاني الآن انفصاماً في الشخصية: فهو إذاً أقر بالواقع “الفلسطيني” الجديد، واعترف أن فلسطين باتت على الضفة الأخرى وفيث خندق العدو، أنكر ذاته ماضياً وحاضراً وافتقد القدرة على تشخيص مستقبله وتحديد طريقه إليه،
وهو إذا رفض ذلك الواقع كان كمن يخرج على العالم جميعاً شاهراً غضبه (إذ لا سيف في يده ولا قدرة على اقتناء سيف)، فيتهم فوراً بالجنون.
من يستطيع الادعاء أنه قادر على إعادة صياغة لبنان بعد استئصال فلسطين، وهو استئصال سيبقي فيه إسرائيل حتماً؟!
من يستطيع الادعاء أنه قادر على الحديث عن أمة عربية بينما إسرائيل تصطنع لها فلسطينها “الجديدة”؟!
لبنان الزجال..
لبنان السياسي ليس أكثر من جوقة زجل مسلية.
اليوم، وفي غياب معظم الحكم، تبدو بيروت مضجرة، ليس لأنها “فارغة” فهي تعاني مثل هذا الفراغ منذ أن انفجرت الحرب الأهلية، فعطلت الفكرة والثقافة والحوار وألغتها كشارع وطني للعرب جميعاً، ولكن لأن الغياب قد عطل النميمة والوشايات الصغيرة والادعاءات الكبيرة.
جوقة الزجل في إجازة،
والمذيعون يعلكون، بلا ملل، كلمات فخمة عن رجال وصغار، ويربطون مصيرنا بلقاءات تاريخية ستشهدها نيويورك وكان ما يحدث فيها أخطر مما حدث يوم 13 أيلول في البيت الأبيض بواشنطن.
لا جود للبنان السياسي خارج الزجل.
والمفارقة أن لبنان السياسي، بالمعنى الأصيل، خارج سياسييه.
اربطوا الأحزمة: اليوم، وفي نيويورك، يبدأ تاريخنا الجديد!

Exit mobile version