طلال سلمان

على الطريق الداخل و”الخارج” في القمة!

مع تناقص الوزن الدولي للعرب، بكل أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو فيهم، وربما بسببهم، صارت قممهم تعبيراً عن إرادة دولية أو تلبية لرغبة “العم الأكبر” الذي ارتضوا زعامته ووالوه وسلموه مقاليد أمورهم يقرر فيها ما يراه مناسباً لمصالح “العالم الحر” و”التقدم الإنساني” تحت قيادته.
صار عقد القمة متعذراً إلا إذا طلبها الأميركيون واحتاجوا غطاءها لبعض مبادراتهم (قمة فاس)، أو لبعض أغراضهم الاستراتيجية في مواجهة “عدوهم” السوفياتي أو في تأمين مصالحهم الحيوية (كضمان إدامة السيطرة على منابع النفط وطريقه إليهم، كما في حالتهم مع إيران الآن)…
أما مقررات القمة فغالباً ما تكون مفهومة ومعلومة منذ نجاح الدعوة إليها، وحتى من قبل أن يتحدد موعدها… فالحاجة إلى القرار هي التي تستدعي بل وتفرض القمة، وليس العكس، وفي ضوء هذه الحقيقة يمكن فهم الفشل الذي لاقته الدعوة إلى قمة عربية على امتداد السنوات الخمس المنصرمة بين قمة الحسن في فاس (1982)، وقمة الحسين في عمان هذه الأيام.
ومن الخطأ الفادح قراءة مقررات أية قمة عربية باللغة العربية وحدها، أو بالنظر فقط إلى ظروف الدول العربية المعنية وطبيعة العلاقات السائدة في ما بينها.
وإذا كانت مقررات قمة فاس في تماهيها مع مبادرة ريغان (اليتيمة والمنسية الآن) فاقعة الدلالات والمعاني، فإن توجهات قمة عمان وقراراتها (المعلنة والمضمرة) تأتي مكملة لقرار دولي معلن، وملبية لسياسة أميركية رسمية عبرت عن نفسها باحتلال الخليج فعلياً ونشر العلم الأميركي فوق مياهه والشواطئ المطلة عليها.
ومع التأييد المطلق لكل ما من شأته دعم التضامن العربي، وحماية كل الأراضي العربية من أي احتلال أو خطر احتلال، فإن حماية الإرادة العربية هي الأولى بالعناية والاهتمام.
ومن أسف إن القمم في السنوات الأخيرة قد عودتنا أن تكون “مناسبة” لخسارة المزيد من إرادتنا بغير أن يعوضنا ذلك استعادة لأرض محتلة أو حماية لأرض مهددة بالاحتلال.
وبالتأكيد فإن السياسة الإيرانية تجاه العرب عموماً، وتجاه عرب الخليج خاصة، ليست منزهة عن الغرض، وليست “ودية” ولا هي مطمئنة أو مقبولة، ولكن الأسئلة التي كانت تفرض نفسها قبل القمة ما إلى تسوية فالشروط هي الثقة في القدرة على تحمل مخاطرة فشل المفاوضات (أي الحرب، أو استمرار الوضع الراهن)، والثقة في قوة التحالفات والاعتماد عليها والمعرفة بمواضع ضعف الخصم، أو حاجته إلى شرعية لا تضفيها إلا التسوية المشروطة.
على أن يتوفر لهذا كله قدرة على إقناع الخصم بجديته.
أما إذا كان هدف أصحاب المطالب المشروطة، إفشال المفاوضات فشرط ذلك أن تكون قدرتهم على شن الحرب أو التهديد بها، قدرة جدية في عين الخصم، خصوصاً وإن التهديد الأجوف بالحرب، بعد الفراغ منه واتضاح خوائه، لا يعيد المفاوضات إلى حيث كانت وتوقفت إنما يعيدها مئات وربما آلاف الفراسخ إلى الوراء.
على ضوء هذه المبادئ والأسس العامة التي تنطبق على أي مفاوضات دولية، كيف تتحدد المراكز النسبية للمشاركين في المؤتمر الدولي لتسوية أزمة الشرق الأوسط، إذا انعقد؟
1)الإسرائيليون:
في تلك المفاوضات سوف يطلبون المطلق، على أساس اقتناعهم بقدرتهم على الفرض عن طريق تسليم العرب بالأمر الواقع. والمقصود بالمطلق إنهم سيطلبون الأمن والأراضي، بينما منطق التسوية هو مبادلة الأراضي بالأمن، أي إن الإسرائيليين، وعلى أساس مواقف أكثرهم “اعتدالاً”.. سيعرضون – كحد أقصى لتنازلاتهم – أن يسحبوا قواتهم المسلحة من “بعض الأراضي” ولا تشمل هذه القدس.
و”سحب القوات” يختلف عن “إعادة الأراضي” لأنهم سيبقون الأراضي تحت “حمايتهم” إذ سيشترطون أن تكون مجردة من السلاح، وأن تكون إسرائيل مسؤولة عن “أمنها” وأن يمنع تواجد أي قوات عربية عليها، وسيطلبون نزع سلاح الضفة الشرقية لنهر الأردن أو جزء كبير منها، أسوة بما حدث في سيناء، كما سيطلبون نزع سلاح هضبة الجولان إذا خرجت قواتهم منها، وهذا كله دون أن يقابله نزع سلاح مناطق في إسرائيل (لم يحدث هذا سوى بشكل رمزي لا يتعدى مدى نيران السلاح الفردي الخفيف في ما يعرف باسم المنطقة “د” في النقب في ملاحق اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، بينما جردت سيناء عملياً وبالكامل وبعمق 200 كلم من السلاح).
وصياغة مطالب إسرائيل في لغة الانسحاب من بعض الأراضي مقابل الصلح والاعتراف والتطبيع ومنع إقامة دولة فلسطينية بأي صيغة كانت وفرض الحياد العسكري على الأراضي التي ستنسحب منها وعلى بعض جوارها هو في حقيقة الأمر مطالبة بما تسميه الحركة الصهيونية.. أرض إسرائيل الكاملة”.
2) العرب:
مطالبهم شرطية، أي إنهم مستعدون أن يعطوا شيئاً ليأخذوا شيئاً في مقابله، على أساس إن الأخذ والعطاء متشارطان، ولا يسعى العرب إلى إفشال المفاوضات بوضع مطالبهم الشرطية مقابل المطالب الإسرائيلية المطلقة، فهم لا يريدون إفشالها، على العكس يريدون إنجاحها بغض النظر عن أي تقدير تاريخي لدوافع هذا الموقف. فدوافع هذا الموقف العربي هو: (1) إن هؤلاء العرب لا يعتقدون إن الحرب في مقدورهم. (2) إنهم لا يعتقدون إنهم قادرون على التعايش مع الوضع الراهن دون خسائر يصعب تداركها في المستقبل (الحديث المتكرر عن الضم الزاحف والتهديد من قيام إسرائيل” بخلق حقائق يستحيل إلغاؤها في المستقبل. و(3) ولأنهم لا يريدون الانتظار إلى مسيرة من القوة أو القدرة التفاوضية و(4) لأنهم مقتنعون – حكاماً وطبقات اجتماعية مكملة – بالأثر التجذيري للصراع مع إسرائيل على الأوضاع الداخلية العربية.
هدف هؤلاء العرب إذن هو التوصل إلى تسوية. وهم يطرحون الحد الأدنى لمطالبهم كفاتحة للمفاوضات (مقررات قمة فاس الثانية) ومع ذلك فهم (1) لا يعتقدون إنهم قادرون ذاتياً على إقناع الخصم بالتسوية التي يريدون. (2) لا يثقون بما يظهرون إنه يجمعهم من وحدة الموقف. (3) لا يستطيعون الاعتماد كثيراً على تحالفاتهم لأن المفارقة إن الطرف الدولي الكبير الذي يقف إلى جانب التسوية التي يريدون وهو الطرف الذي لا يحب أغلبهم التحالف معه، بينما الطرف الدولي الكبير الآخر والذي يقف إلى جانب مطالب الخصم المطلقة، هو الطرف الذي يفضل أغلبهم التحالف معه، ويعتقد أغلبهم إنه ضمان أمنهم على معنى أو آخر من معاني الأمن. (4) لا يتصرفون على أساس من إدراك عوامل قوتهم لأن رؤية الحاكمين منهم للمصالح القومية رؤية قصيرة النظر (مثلاً البترول وإخراجه من السياسة والمال واستبعاده كوسيلة ضغط، ناهيك عن العزف عن استثمار قيمة الموقع) (4) لا يتصرفون على أساس من إدراك مواضع ضعف الخصم وهي عديدة. (مثلاً ما تكشف من حدود للقوة الإسرائيلية في حرب لبنان، بل ولعل هؤلاء العرب يخافون هذا العنصر مثل ما تخافه إسرائيل. لأن حدود القوة الإسرائيلية انكشفت في مواجهة قوة شعبية، وقد ذكر حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي للرئيس السادات إن القيادة المصرية في 1973 لم تدرك مغزى معركة مدينة السويس في الكشف عن إن قوة إسرائيل قد وصلت إلى مداها دون أن تستطيع الاستيلاء على السويس وبالتالي لم تستمثر هذا في المفاوضات. (6) لا يضعون في حسابهم أقوى أوراقهم وهي حاجة الخصم إلى الشرعية والتي لا يمكن الحصول عليها بالغزو وبالاحتلال مهما طال. وإن جوهر مشكلة إسرائيل الأمنية إنها رغم الاعتراف الدولي بها، تعرف إن شرعيتها منقوصة بعدم اعتراف الجيران بها.
3) السوفيات:
في ندوة نظمتها الخارجية المصرية مع معهد أفريقيا السوفياتي في الربيع الماضي قال أستاذ بارز في هذا المعهد ما معناه : إن ركناً مهماً من أركان العلاقة المصرية – السوفياتية قد انهار بالصلح المصري الإسرائيلي، فصداقات الدول وتحالفاتها لا تقوم فقط على المصالح المشتركة إنما تقوم أيضاً على العداوات المشتركة، ولقد كان من أركان العلاقة الوثيقة بين موسكو والقاهرة إن موسكو تعتبر إسرائيل عدواً يقع على جنوبها الغربي. وكانت القاهرة تعتبر إسرائيل عدواً يقع على شمالها الشرقيز فلما تصالحت مصر – منفردة – مع إسرائيل انهار ركن مهم من أركان العلاقة الوثيقة.
وهذا الكلام الواضح يغري بالاختصار في تحديد المركز السوفياتي في المؤتمر الدولي. بما للاتحاد السوفياتي من مصالح ذاتية، خصوصاً وإنهم يلحون على عقد مؤتمر دولي للتوصل إلى تسوية تقوم على أساس “الأمن المتساوي” أو “المتكافئ”.
فيمكننا إرجاع هذا الالحاح في حدود المصالح السوفياتية الذاتية إلى أن الوضع الراهن ينشط عداء إسرائيل للاتحاد السوفياتي. وهو عداء له امتدادات رئيسية في اتجاهين (1) داخل الاتحاد السوفياتي (مسألة اليهود تساعدها الايديولوجية المعادية للنازية وبالتالي المتعاظمة مع اليهود) و(2) داخل الولايات المتحدة الأميركية على نحو يؤثر على العلاقات الأميركية – السوفياتية حتى إنه يمكن القول إن معظم ما فرض من قيود على تصدير التكنولوجيا الأميركية المتقدمة إلى السوفيات يرجع إلى النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة.
أي إن الاتحاد السوفياتي يريد إنهاء الوضع الراهن على قاعدة من التوفيق بين مطالب ومصالح متشارطة للعرب وإسرائيل. وهذا أحد أسس توافقه مع مجمل الموقف العربي. كله أساساً يحقق للسوفيات ما يريدون داخلياً وأميركياً دون التفاضي عن العوامل الأخرى.
4) الأميركيون:
يرون من الشواهد ما يقنعهم إن بعض العرب قد أرهق وأنهك، وإن بعضهم قد تعلم الدرس. وهذا يجعلهم أطوع للاستجابة للمطالب الإسرائيلية المطلقة.
والمفارقة إن تحقيق المطالب الإسرائيلية المطلقة، يحقق المطلب الذاتي السوفياتي، إنما بشروط أخرى يصعب أن يقبلها السوفيات لأنه يثبت لإسرائيل إنها قد نجحت في ابتزازهم وهو ما لا يليق بدولة كبرى ولا يخدم مصالحها كما يثبت للأميركيين إن إسرائيل أداة كفؤ في تحقيق مرامي واشنطن في كل الاتجاهات.
5) الغرب بما فيه الولايات المتحدة:
يمكن القول إن المصلحة الغربية الحيوية في هذه المنطقة قد اتصلت أو هي بسبيلها إلى الانتقال إلى الخليج، لكن عدم تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي يهدد هذه المصلحة الغربية الحيوية التي هي استمرار تدفق النفط، فطرق هذا التدفق تقع في منطقة الصراع.
كذلك فإن الغرب يعتبر استمرار الصراع العربي الإسرائيلي عنصراً تجذيرياً في الأوضاع الداخلية في منطقة الخليج.
6) الأميركيون مرة أخرى:
لدى واشنطن حلم اسمه “الوفاق الاستراتيجي” الذي هو إطار تحالف عسكري يغطي المنطقة العربية وتشارك فيه إسرائيل. وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تمت تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي.
7) السوفيات مرة أخرى:
بسبب حلم الوفاق الاستراتيجي، لا يريدون تسوية إلا على الأساس المتشارط، الذي يؤدي إلى تحجيم إسرائيل وتحجيم دورها وتشكيك الغرب في جدوى الاعتماد عليها.

Exit mobile version