طلال سلمان

على الطريق الخوف العالي الصوت على خط الدفاع الأخير!

“هي نكسة للشرعية، بلا جدال، ولكنها ليست الكارثة، والعبرة في النتائج، وبيروت الكبرى ستنفذ وإن متأخرة بعض الوقت عن موعدها المقرر، وربما بعد التعديلات طفيفة على خطتها الأصلية…
“كان النجاح احتمالاً فلم يتحقق، ولعلنا توهمنا إننا نفاوض حليفاً أو استسهلنا المفاوضة مع من يرى في نفسه شريكاً محتملاً. لكنه في الحقيقة في منزلة الخصم، ولعله قد حقق – بهذه الصفة – نقطة، لكننا لم نكن نملك أن نفغل غير أو أكثر مما فعلنا… وربما لم نكن نملك أن نعطيه ما يطلبه. ولعله كان يستدرج عبر مناوراته معنا وعلينا عرضاً ممن يملك أن يقدم له هذا العرض. وفي أي حال فإنه لا يستطيع أن يأخذ الكثير، وما قد يأخذه لن يعوضه ضعفه.
“وطالما إن “المعارك” إعلامية أساساً فإن من يملك الأعلام الأقوى يستطيع أن يصور هزيمته نصراً ونصر غيره هزيمة.
“المهم ما يكون عليه الحال حين تنطفئ شاشة التلفزيون”.
… وشاشات التلفزيون، في لبنان، صورة واحدة من زوايا مختلفة، يتكامل في قلبها الخصوم ولا يتناقضون، بل تحكم علاقاتهم اتفاقات جنتلمان تظهر عمق الشراكة ووحدة الهدف في ما بينهم: الكل معترف بالكل، ولا أحد يطمح إلى أو يرغب في إلغاء الآخر، والكل يتعامل مع أخبار “خصمه” بود واحترام وحرص هو بعض حرصه على الذات.
إنها إذاعات “الخبر الواحد”… وهو ليس في نهاية الأمر خبراً!!
قد يختلف الترتيب، وقد تتباين التفاصيل، ولكن الجوهر واحد لا يتغير، فمالكو الأجهزة هم مالكو “الحقيقة” يظهرون منها بمقدار ويخفون منها ما يهدد “السلامة العامة” للشركاء وكبار المساهمين.
ليس “الحدث” هو ما تراه على الشاشة الصغيرة، مساء كل يوم، وما تسمعه في الاذاعات المتعددة الخاصة (وكلها خاصة) على مدار الساعة بإنصافها والأربع، ولا هو ما تقرأه في الصفحات الداخلية وأحياناً في صدر الصفحات الأولى مع قهوة الصباح.
ما تراه (وتسمعه وتقرأه) هو أجزاء من صورة مقطعة واصلها مضيع قصداً واصداء الحركة لما تكتمل، وأحياناً غبار معارك لم تقع، واحتفالات بنصر لم يتم.
وصاحب الرأي السائد، والصورة الطائفية، هو صاحب محطة التلفزيون الأقوى والشبكة الإذاعية الأوسع انتشاراً الأغزر في مادتها “الإخبارية” وريبورتاجاتها المصممة بعناية.
التلفزيون يصنع لك الحدث : يكبر الصغير، يصغر الكبير، يطمس ما قد يسيء إلى صورة صاحبه وقدراته، ويبرز ما قد يسيء إلى خصمه.
بغض النظر عن وجاهة المنطق وصحة الخبر المهم أن تصل، متى وصلت يصعب من بعد اقتلاع ما زرعت. حتى “الخصم” يكون مضطراً إلى سماع رأيك “وفهم” الأحداث عبر سياقك أو ترتيبك الخاص لها. يتلقى منك “الأخبار” فيفترضها صحيحة أو يكون عليه بجهد ذاتي وغير محدود أن يثبت أنها غير دقيقة أو غير أمينة، أو إنها لم تقع أصلاً.
وعبر تجربة التلفزيونات والاذاعات الخاصة في لبنان أثبتت الميليشيات إنها “أذكى” من أنظمة العالم الثالث. فهي لا تحتكر مثلها المساحة الكاملة لساعات البث، بل تضفي على ذاتها شيئاً من الديموقراطية وسعة الصدر و”الموضوعية” بعرضها لوجهات نظر “الآخرين”، حتى لو كانوا من خصومها، بحيث تنال من مشاهدها (وسامعها) وخصمها شهادة حسن سلوك، ولو شابها بعض التحفظ.
ومع الدولة والحكم والشرعية في لبنان تصبح المفارقة فاقعة جداً:
الشرعية خرساء، تقريباً، لا تستطيع أن توصل صوتها وصورتها إلا عبر شاشات الميليشيات وإذاعاتها الخاصة التي تزعق إناء الليل وأطراف النهارل… فإذا كانت المواجهة بين الشرعية والميليشيا انتهت المعركة قبل أن تبدأ!
الشرعية حصنها البديهيات والمبادئ العامة، وللميليشيات السياسة والمناورة والتكتكة وسائر البلهوانيات فوق مسرح فارغ!
الميليشيا في الصورة، كما في القرار، واحد واحد بلا شريك،
والشرعية هيئات ومجالس ومؤسسات تعمل بالتوافق والتراضي، وتجنبنا للفيتو والفيتو المضاد فهي تسير بخطى أضعف المشاركين فيها، وتتجنب كل ما له علاقة بالرأي والقرار وتحديد الموقف حتى لا تفقد وحدتها الهشة (والشكلية غالباً).
الدولة ليست على الشاشة. الشرعية لا تظهر بحجمها الطبيعي على الشاشة. والرمز الذي قد يعطى فرصة الظهور لا يمثل، بالضرورة، الحكم بكليته…
الشاشة لصور الحكام، ولكنها ليست للحكم ولا للدولة.
الدولة ضيف الحلقة على شاشة الميليشيا.
ولعلهم يريدونها أن تكون ضيفة الشرف على ساحة هيمنة الميليشيا.
أين بيروت الكبرى، بعدما تعذر تنفيذ قرار مجلس الوزراء بإقامتها في مهلة انتهت عملياً قبل يومين؟!
وهل أوقفها جعجع لأن أقوى من صاحب القرار. أم لأن القرار ولد بلا ساقين من حديد؟!
هل تملك “القوات اللبنانية” من دون غيرها من الميليشيات حق الفيتو، وهل هي تملك هذا الحق الاستثنائي بسبب من لونها الطائفي؟! أم هي تملكه بسبب من تحالفها الموضوعي مع الشق المسيحي (والماروني أساساً) في قمة السلطة؟!
وهل صحيح إن “القوات” تهاجم والشرعية في تراجع، واين هي النقطة التي لا رجوع بعدها؟
ثم هل تستخدم “القوات” الشرعية، ورئيس الجمهورية تحديداً، أم هو من يستخدمها، من خلف ظهر مجلس الوزراء وسائر شركائه على قمة السلطة؟!
وبأصرح: هل الرئيس الياس الهراوي وسيط “القوات” لدى دمشق، أم هو موفدها إليها، أم إنه أقوى لدى دمشق وفيها، ومن ثم أقوى في بيروت مما يقدر المقدرون، وإنه يحمل كلمة دمشق ومفتاح السر، يعطي من رصيدها ليأخذ لنفسه ولحكمه وللشرعية؟!
الجعجعة ليست بشارة بالنصر، وعلم الصوت ليس دليلاً قاطعاً على ارتفاع الهمة وتعاظم القوة.
وفي الغالب الأعم فإن الأضعف هو الذي يحتاج إلى رفع صوته تعويضاً عن القوة المفتقدة.
وعلى امتداد الأيام القليلة الماضية كان سمير جعجع يزيح مذيعي الأخبار ومقدمي البرامج وأحداث الخليج وصور بوش وغورباتشوف وميتران ليحتل شاشته الصغيرة.
وبقدر ما أطلق من تصريحات وأحاديث وتوضيحات واستعاد مقابلات، بقدر ما كان يؤكد ضعفه: ولأول مرة كان الضعف يظهر صوتاً وصورة، وبالألوان!
في كل لحظة كان سمير جعجع يعلن خوفه، بينما عباراته الفخمة تقول إأن قوته جعلته صاحب حق وحيد باستخدام “الفيتو”.
كان يعلن خوفه من شرعية لها حكم وحكومة ومجلس نيابي ومواقع نفوذ لا يتمثل فيها مباشرة وبشخصه الكريم.
وكان يعلن خوفه من الشارع، فهو يعرف كم هو “محبوب”، وكم هو جماهيري في مناطق هيمنته، كما في المناطق الأخرى،
وكان يعلن خوفه من الجيش، فهو يعرف مدى عمق الود بين هذه المؤسسة التوحيدية، في أصلها، وبين الميليشيا التي كانت تقيم على حساب الدولة دولتها الخاصة،
ثم إنه كان يعلن خوفه من خصومه العديدين وكلهم أقوى منه وأكثر حرية في حركته لأنه أكثر اطمئناناً إلى محيط ما يستطيع أن يتحرك فيه كمشروع سياسي وليس كتنظيم مسلح.
ولقد أعلن سمير جعجع بالفم الملآن إنه يخاف إيلي حبيقة وأسعد حردان والملازم فلان الفلاني في اللواء كذا ومن العريف علان في الكتيبة الرقم كذا،
إنه، باللغة العسكرية، يقاتل قتالاً تراجعياً، ويقود هجوماً دفاعياً على خط الدفاع… الأخير!
من يطمئن سمير جعجع وإلى ماذا وبأية شروط!
ومن يقنع الآخرين بأن سمير جعجع على هذه الدرجة من الضعف حقاً؟!
في انتظار أن “تحل” الطمأنينة وتسود ستظل بيروت الكبرى رهينة خوف “الحكيم”، في حين إن قيامتها مصدر ارتياح وأمان كل اللبنانيين في العاصمة وخارجها.
والكلمة، مرة أخرى، لدمشق.
فبيروت الكبرى، كما الدولة الجديدة، تبدأ من دمشق وتنتهي بها… وفقاً لقرار مجلس الوزراء الشهير الذي لم ينفذ بعد، والذي لا بد من تنفيذه لكي يتم إسقاط التمرد نهائياً.

Exit mobile version