طلال سلمان

على الطريق الخندق الأخير للانعزالية…

من يقرأ المقالات والمطولات “النظرية” الكتائبية، أو يسمع التصريحات التي يطلقها قادة الكتائب لفتح باب “الحوار” يكتشف بالملموس أن المنطق الانعزالي لا يستطيع أن يصمد طويلاً لأي مناقشة علمية أو طبيعية، بمعنى أن يمارس العقل فيها ولو حدا أدنى من الحضور.
فهذا المنطق مريض بتكوينه، وأهم سبب لمرضه كونه ينمو ويترعرع داخل شرنقة من التعصب والخوف المتأتي عن انعدام الرؤية … فهو كأي جسم لا يتعرض للشمس والهواء يظل أضعف من أن يقبل الحياة وتقبله، ولستر ضعفه وخوفه من المواجهة يلجأ إلى مسلك استفزازي فيستعدي الآخرين لتعطيل الاتصال فالتأثر فالضياع وافتقاد الشخصية والقدرة على الاختيار.
والانعزالية، كأي مرض، عدو لصاحبها قبل أن تكون عداء للآخرين. إنها سرطان يلتهم إنسانيته وحبه للحياة وللآخرين، ويدمر عواطفه البسيطة. فهي تملأ نفسه شكا بالآخرين وريبة في حقيقة مواقفهم تجاهه، وتعميه عن اكتشاف أي خير فيهم، فالود يستحيل تزلفاً ونفاقاً ورياء لاستدراجه إلى فخ منصوب، والنقد تهديم، والرغبة في الشراكة وتأكيدها افتئات على حقه ومنازعة له في “حصته”.
لا يستطيع الانعزالي أن يرى الخير في غيره وإلا كان معنى ذلك إدانة نفسه. فإذا كان غيره وطنياً فهو – إذن – غير وطني.
إنه عدواني بحكم تربيته وانغلاقه وتقوقعه. وبالتأكيد فهو كثيراً ما يتعذب بل ويتمزق لأنه يرغب في إنشاء علاقات صحية بالناس من حوله، ولأنه لا بد يحب بعض الناس ممن تجمعه الظروف والمقادير بهم فيكتشف فيهم الطيبة والنبل والمحبة والصفاء وغير ذلك من الصفات التي كان يفترض انعدامها فيهم… لكن خوفه غالباً ما يلجمه فتأتي ردة فعله عنيفة و”فاشية” بل “سادية” كما تثبت وقائع التعذيب والتمثيل بجثث الضحايا.
ولقد كان الانعزالي في لبنان يلجأ، في السابق، إلى قوقعة “الوطنية” بالمعنى “الشوفيني” المتعصب، المتزمت، الضيق الصدر والأفق، ويعوض شعوره بالحاجة إلى انتماء “قومي” وإلى هوية محددة بالقفز من “المحلية” الجبلية وحتى القروية، إلى “العالمية” دفعة واحدة، فإذا لبنان هو الكون… ولأنه الكون فهو بلا حدود، وبغير حاجة إلى انتماء حقيقي إلى أرض بعينها، وشعبه من ثم بغير حاجة إلى تأكيد ارتباطه بهذه الأرض بالدفاع عنها ضد عدوها الحقيقي.
كان الانعزالي يقول “أنا اللبناني” ويتذرع بهذه اللبنانية – الكونية لمواجهة الحقيقة القومية البسيطة: إن لبنان بلد عربي، شعبه عربي، أرضه عربية في منطقة عربية، تاريخها عربي، مصيرها عربي، وهو صاحب دور غير منكور في خدمة قضايا أمته، وقد حمل أبناؤه رايات الريادة في اكتشاف الهوية وأصالة الانتماء القومي.
ولقد كابر الانعزالي طويلاً، وظل يرفض تصديق إن الحركة الوطنية في لبنان قد حلت، بتقدمها، هذا الالتباس الشكلي واللفظي بين “الوطنية” و”القومية”، واندفعت تناضل من أجل لبنان الوطن وتدفع الدم رخيصاً في سبيل تأكيد استقلاله واستكمال تحرره وتثبيت انتمائه القومي، في آن،
ثم كان لا بد أن تنتهي المكابرة أمام الحقيقة الدامغة، وهكذا تخلى الانعزالي عن ادعاء “الوطنية” مرتداً إلى خط دفاعه الأخير: الطائفية، بالاسم وبالمضامين الأكثر تخلفاً التي تجاوزها الإنسان قبل قرون.
ومن يقرأ الكتابات والطروحات الانعزالية في “العمل” وغيرها من “أدبيات” الانعزاليين يرى أنهم يصنفون “مسلماً” كل معارض لخطهم أو معترض على مشروعهم الانتحاري… ولو كان كاثوليكياً فرنسياً أو حتى بطريركاً مارونياً.
على إن الانعزالية، في النهاية، مرض وليست قدراً…
وهي، ككل مرض، ستخلق أسباب مقاومتها والقضاء عليها في حسم المواطن الذي يحملها… ومثل “الثورة المضادة” ستبرر الثورة وتجعلها حتمية.
ولن يقضي “الآخرون” على الانعزالية، بل إن المبتلين بشرها هم الذين سيضعون حداً لآلامهم وعذابهم وتمزقهم داخل شرنقتها الخانقة.
هم الذين سيخرجون إلى النور، إلى الشمس والهواء والعافية، إلى الحياة، إلى “الوطن” الحقيقي حيث يلتقون إخوانهم الذين يناضلون معهم (حتى ولو لم يعرفوا) من أجل غد أفضل للبنان كله، وللبنانيين جميعاً… بوصفهم مواطنين وأخوة في وطن واحد موحد، وليس بوصفهم أتباع طوائف ومذاهب وملل مختلفة ومتعددة.
ووحده غير الطائفي والمقاتل ضد الطائفية هو “الوطني” وهو “العربي”… وقبل ذلك هو هو “اللبناني” المعافى.

Exit mobile version