طلال سلمان

على الطريق الخليفة في دولة جونيه…

… وفي الثاني من رمضان لسنة 1414 هجرية قام “الخليفة” بإحياء تقليد السلف الصالح بزيارة إلى أديار الرهبان، فاستقبله الآباتي يوحنا ثابت مرحباً “حيث السكينة مدخل إلى التصوف، والصلاة حضور ولقاء لله وإلإنسان في عمق الكيان”…
لم يكن “الخليفة” متنكراً ولا متدروشاً بل مستنفراً ومستعداً بالخطاب المكتوب وبالتلفزيونين الخاص والأخص، وبالمخلصين من كتبة السلطان، وبالنفر الطيب من الأتباع والحوارين والمستشارين المتخصصين في “تمتمات الرهبان وابتهالاتهم”.
كذلك لم يكن من احتشد “للمواجهة” في المدرسة المركزية متنكرين أو “مسبوعين”، بل قالوا كل ما تعودوا قوله في التعبئة ضد “الخلفاء” عموماً، وإن وشوه ببعض كلمات المجاملة الممهدة لكشف “ملامح شخصيتكم الحقيقية” لأن “وجودكم بيننا له بعده في الزمان وله أهميته في المكان، إنه أول لقاء مع القاعدة – الشعب في هذه المنطقة، بمن وما تمثل روحياً ووطنياً وسياسياً وتاريخياً”.
إذاً، لقد اخترق “الخليفة” الحاجز النفسي والحد الوهبي وقصد إلى “الدولة الأخرى” في جونيه، وإلى عرين الرهبانية المارونية، وجلس لحوار هدفه “توضيع ما تشوه أو شوه، وإيضاح ما غاب أو غيب، لنسمعك همومنا ونستمع إلى اهتماماتك فنمد جسور التلاقي بين هذه الهموم وهذه الاهتمامات”.
ماذا قال “الخليفة” للرهبان؟!
والأهم: ماذا سمع “الخليفة” في جونيه “التي لا يهمها هدير البحر”، ومن المتحدثين باسم الرهبانية اللبنانية المارونية “التي تملك حدساً تاريخياً مرهفاً للحكم على من يتعاطون في شؤون الوطن”؟!
في أقوال “الخليفة” أطلت صورة “الدولة”، ولو استحياء، باعتبارها الإطار الجامع للأسرة الواحدة، والصيغة التوافقية بين الطوائف.
أما المضيف فقد كان صريحاً، مباشراً وبهويته “المسيحية” بل المارونية مكشوفة بلا تمويه. وكان في كل ما صدر عنه كأنما يتحدث من دولة أخرى وعن “دولة في الخارج”.
قال المضيف “الماروني” أن “مسألة اللامركزية هي مسألة مركزية في وثيقة الوفاق الوطن، وفي الموقف المسيحي لثلاثة أسباب:
1 – الأول، لأنها المعادل لنزع صلاحيات أساسية من رئيس الجمهورية المسيحي.
2 – الثاني لأنها مرتبطة بعودة المهجرينن أي بعودة التوازن الجغرافي – الديموغرافي إلى الخريطة اللبنانية.
3 – والثالث، وهو الأهم، لأنها الضمانة الوحيدة لنمط الحياة لدى المسيحيين، وكل العائلات الروحية”.
وقال المضيف، مكرراً ما سبق أن أعلنه قدس الأب العام، الآباتي يوحنا ثابت في عيد مار مارون، “إن الموارنة هم المعادلة الأساسية في كل تركيبة لبنانية جديدة، فإن لم يسهموا في الحل، لن يهبط الحل على أحد، لا في لبنان ولا في خارجه”.
وقال المضيف أيضاً: إن مشكلة لبنان في أحد وجوهها الأساسية هي مشكلة مصدر الشرعية فيه، منذ بروتوكول 1861 حتى تنفيذ آخر حكم بالإعدام في بعلبك في شباط 1994.
أما حقيقة الحقائق، في نظر المضيف، فهي “أن الكنيسة المارونية” وعلى رأسها غبطة البطريرك الماروني هي المؤسسة الأم، الأكثر ثباتاً واستقراراً واستمراراً في التاريخ الماروني، وهي ليست فقط مرجعية بل هي المرجعية”.
كيف يكون هناك حوار بين مثل هذه المنطق وأي “خليفة” يفترض فيه أن يكون رمز “الدولة” وليس رمز السلطة، والسلطة الدينية (الأخرى) كما لعله قصد الآباتي ثابت من التشبيه؟!
ومن أين للدولة بأجوبة على أسئلة تنقض وجودها، كدولة، وتصر على التعامل معها بوصفها صفقة أو مساومة بين طوائف: يسلم المسلم بنهائية لبنان مقابل إقرار المسيحي بالهوية العربية، ويسلم المسيحي بالقيادة الجماعية في مجلس الوزراء بديلاً للقيادة المسيحية مقابل اعتماد اللامركزية وعودة المهجرين، وتعيد سوريا إعادة نشر قواتها إلى البقاع فيسلم المسيحي بعلاقات مميزة معها الخ…
لقد بدأ الحوار وكأنه خارج الدولة، حوار بين الرهبان و”الخليفة”. وفي حين أن الرهبان فعلاً فالرجل ليس “الخليفة” مع أنه لم يعترض على التشبيه.
وحين جاء أوان الأسئلة والأجوبة غامت صورة الدولة، الباهتة أصلاً، وسادت النبرة الشخصية تماماً، سواء عن “العشاء السري” مع جعجع، أو عن العلم السعودي على الطائرة الخاصة…
وتكشف ما تبقى من السياسة الخاصة عند الحديث عن المجلس الاقتصادي – الاجتماعي، فإذا مبعث الاعتراض الذي استدعى سحب مشروع القانون بإنشائه أنه سيكون شريكاً في القرار، مما يعقد “حياتنا البرلمانية”؟!
على أن “الخليفة” طمأن من يعينهم الأمر وبينهم المضيف، إلى أن المدرسة الخاصة باقية، “وكل يوم نعطي رخصاً جديدة لمدارس خاصة”، وكل ما في الأمر “إننا نقول بضرورة تشجيع المدارس الرسمية ورفع المستوى فيها”.
وبلغ “الخليفة” ذروة الفصاحة حين قال، لا فض فوه، إن ارتفاع الأقساط المدرسية له علاقة بالغلاء في البلد… وهو غلاء لم يتأثر، يا سبحان الله، بانخفاض سعر صرف الدولار من 2800 إلى 1700 ليرة، خلال عام واحد، كما سجل بارتياح، مفترضاً أن المشكلة قد حلت بالقرار الذي اتخذه المجلس النيابي بتجميد الأقساط!!
تبقى بعض الطرائف التي يمكن تسجيلها على هامش هذا الحوار بين الرهبان و”الخليفة”:
-في حين كان الرهبان يؤكدون على أن الطائفية هي أساس الوجود، وأن مرجعية كل طائفة (كالبطريرك بالنسبة للموارنة) هي المرجعية، فإنهم اعترضوا على غياب الدولة وعدالتها وقضائها عن جريمة بعلبك وترك المنطق العشائري ينفذ حكم الشرع في الجاني.
ولم يسمع مثل هذا الاعتراض عندما كان المنطق العشائري ذاته يحل إشكالات مماثلة في بشري.
وطريفة هي المقارنة بين الطائفية والعشائرية لاكتشاف من منهما الأقرب إلى الدولة ومنطقها.
-الأطرف إن رد “الخليفة” تضمن اعترافاً صريحاً بأن الدولة بلا قضاء، إذ أن القوانين بحاجة إلى تحديث والمحاكم بحاجة إلى ثورة في إجراءاتها، والقضاء بحاجة إلى قضاة…
لكن مثل هذه الشكوى لم تصدر عن “الخليفة” حين أراد فكان له ما يريد في تخمين العقارات في الوسط التجاري لمدينة بيروت فإذا الثورة تجتاح القضاء والعدالة والإجراءات، وإذا بعض من اختارهم من القضاة يصلون الليل بالنهار لكي تحصل الشركة العقارية على ما تريد ويحصل أصحابها على “900 مليون نعم” ما عدا “الفراطة”.
-ثم تجيء درة القول حين ذكر “الخليفة” بأن النظام الموجود عندنا هو نظام برلماني، ولكن برلماني طائفي؟؟! ومن أجل ذلك فإنه في اتفاق الطائف ذكرت الأمور الطائفية لأول مرة، ذلك أنه في الدستور القديم لم يكن هناك ذكر للطائفية؟؟! هناك ثلاثة أشخاص، رئيس الجمهورية، رئيس مجلس الوزراء ورئيس المجلس النيابي، وكل واحد منهم من بيئة مختلفة؟؟ ولديهم ثقافات مختلفة؟؟! وأعمار مختلفة (؟) وأمزجة مختلفة، وهم يارسون عملاً جديداً، وإذا تصورنا أنه عند بحث أي أمر في الدولة على الثلاثة أن يوافقوا عليه نكون بذلك نطلب منهم أن يكونوا غبر إنسانيين، هذا أمر غير إنساني؟!!
على الدولة إذاً أن تنتظر ريثما يمن عليها الله بثلاثة من بيئة واحدة ومن ثقافة واحدة ومن عمر واحد ومن مزاج واحد حتى تقوم… ملبية بذلك الشرط الإنساني!
و”الخليفة” له الوقت كله، فهو لا يستقبل ولا يقال.
ثم إنه طمأن الناس إلى أن الذكي والشاطر هو الذي يضم عقول الآخرين إلى عقله…
بعد العقارات سينشئ أطال الله عمره إذاً شركة عقارية للعقول، وبذلك تتعزز الدولة وتنطق مسيرة البناء.
“الخليفة” عند الرهبان في جونيه، هذا مكسب للطرفين.
لكن “الدولة” ما زالت جنيناً، وعليها أن تنتظر طويلاً ساعة الولادة الحقة، هذا إذا سلم الله الجنين من الطائفية والمركزية والعقارية والعشائرية وأمزجة “الخلفاء” والرهبان جميعاً.

Exit mobile version