طلال سلمان

على الطريق الخريف ربيعاً في الجنوب!

لم تكن “أمل”، ولا أي طفل من أندادها، بحاجة إلى الشروح ووسائل الإيضاح للتعرف على العدو. إنه مثل الموت، يحمل ملامحه وأدواته، وينفث رائحته النفاذة، ويطحن بأقدامه الثقيلة الزرع والزجاج الملون والصور الأليفة المثبتة للحظات والمناسبات الغاليات، وخم الدجاج وفراش الضيوف ومخدة “الرويشة” التي تمنحها حين تريح رأسها عليها سعادة الحلم بهدايا العيد.
العدو هو الموت، والموت هو إسرائيل، وإسرائيل هي هذه الآلات الجهنمية التي تطلق النار، من البر، من الجو، من المدافع، من البنادق، من الطائرات، فتقتل البشر والحيوان والبيوت والعصافير والهواء والفراشات الملونة والموسيقى والأغاني التي يدبك عليها شبان مجدل سلم وصباياها، والتي متى صدحت استقدمت الشبان والصبايا من القرى القريبة.
صحيح إن “أمل” في التاسعة من عمرها، لكنها سمعت فحفظت كل أغنية ترنم بها الأهل في الأعراس، أو بثتها إذاعة، أو نقلها بالصورة التلفزيون.
و”أمل” كانت تعرف أن الفرح يختفي متى حضرت إسرائيل، فالخرس الذي يتخطى حداد الحزن على فقيد هو ذلك الذي يخيم على الضيعة حين يجيء “اليهود”.
أمل مأمون ياسين، 9 سنوات، من أهالي مجدل سلم، في جنوب الجنوب، حيث يرتطم الحديد بالإرادة فتنتصر الأرض لأصحابها، يحمونها في حياتهم وتحميهم (وتاريخهم) في انتظار أن يكبر الأطفال فيكملوا المسيرة التي – مثل الزمان – لن تتوقف وإن انقطعت ليوم أو بضع سنين.
… وحين اخترق السهم الناري الأول ثنايا الحلم، في صدر “أمل”، وانبثق الدم دافئاً كقبلة الأم، غزيراً كحنانها، لم تتوقف “أمل”، ولم تلتفت إلى الخلف. استمرت تجري لنجدة أمها التي أفجعها فأسقطها تهاوي البيت الذي يعدل الوطن.
توالت الأسهم النارية كالمطر، واشتعلت جنبات “أمل”، وتفجرت الأوردة والشرايين جميعاً. هطل الدم غزيراً من الرأس، من العنق، من الصدر، من الظهر، من الذراعين، من الساقين، من الحلم المبقور فؤاده، وانتثر كشقائق النعمان فوق البساط الخريفي المرقش.
أعطت “أمل” الأرض لونها الجديد، أعطت ترابها عطره، وضمخت الهواء بشميم العرار، ثم انثنت فانغرست كفرخ نبتة طرية العود لزيتونة مباركة جذرها في الأرض وفرعها في السماء.
أمل مأمون ياسين، 9 سنوات، من أهالي مجدل سلم: لن يكون لها مأتم، ولن يقام لها أسبوع يتبارى فيه خطباء المدافن على الرثاء، شعراً ونثرأً، في انتظار وليمة الدسم والصور الملونة في التلفزيون.
مع “أمل” سقط ذراع شقيقتها الكبرى، وسقطت ساق شقيقتها الوسطى، أما الأم فقد وقفت برغم جراحها ورأسها المثقوبة بانفجار البيت، لكأنما أمدتها الأرض بساقين صلبيتين – مثل إرادتها – لا تنكسران، وإن كان القلب ينزف فإن نزيفه سيضيف لوناً بهياً جديداً إلى خريف الجنوب الذي أدمن الحزن لكنه ما زال يرفض اليأس.
طلقة، عشر طلقات، خمسون طلقة، مائة طلقة، ولو ظل ثمة مكان إضافي للرصاص لأطلق الموت الإسرائيلي المزيد من الطلقات على طفلة التسع سنوات من مجدل سلم في جنوب الجنوب.
مائة طلقة؟!
ما أصلبك يا الجنوب، طفلاً وشيخاً، أرضاً وغرساً، شعراً وإرادة، وخريفاً مشتعلاً بالنجيع حتى ليبدو أكثر شباباً من ربيع الربيع.
الرصاص لأطفال الأرض. الأرض للأطفال، الأطفال للأرض. الأرض أبقى من الرصاص. وفي الأرض “أمل”. و”أمل” الآن أرض إضافية للجنوب الذي يستولد كل لحظة بدماء أطفاله بيادر شقائق النعمان حتى لتحسبها لا تذبل ولا تموت.

Exit mobile version