طلال سلمان

على الطريق الخائفون من السلام في “الكانتون الرابع”

إذا كان ما حدث في الشطر الغربي من بيروت خلال الأسبوعين الماضيين مهماً بذاته، ومهماً أيضاً بالنتيجة السياسية الأولية التي أدى إليها عبر لقاءات “الخمسة” في دمشق، فإن ما يحدث الآن في الشطر الشرقي من العاصمة لا يقل أهمية، بل هو يأتي في السياق ذاته ومدفوعاً بقوة “الرياح الجديدة” التي تفعل فعلها الآن في لبنان والمنطقة عموماً.
البعض يسمي ما حدث ويحدث “تحولات”، ويستقرئ اتجاهات الريح في عواصم الدول العظمى، ويحاول التقاط الرسائل والاشارات المتبادلة التي تطيّر من فوق رؤوسنا جميعاً، ويندفع في التحليل (والتمني) إلى حده الأخير فيفترض إننا مقبلون على مرحلة جديدة من الوفاق الدولي بين عناوينها “المؤتمر الدولي” لما يسمى عادة “أزمة الشرق الأوسط”…
والبعض الآخر يحاول أن يبسط المسألة فيراها، بالمجل، عودة إلى العقل أو إلى الوعي بحقائق الحياة، وبينها التاريخ والجغرافيا وصلة الرحم وموجبات بقاء لبنان، وبينها إنه يكون واحداً أو لا يكون أبداً.
على إن الكل يجمع إن دخول القوات العربية السورية إلى بيروت، بالمضمنون وبالشكل وبالتوقيت، ولاسيما بالتوقيت ، قد أسقط أوهام قيام أو استمرار الكانتونات الطائفية في البلدز
فبين ليلة وضحاها اندثرت ملامح ثلاثة كانتونات مفترضة أو محتملة في الرقعة الضيقة الممتدة بين صوفر وصيدا ودائماً عبر بيروت والضاحية.
وأبرز ما تجهر به التطورات الجارية الآن في الشطر الشرقي من بيروت إن الكانتون – الام يعيش هزة عنيفة ويترنح عشية سقوطه الذي سيكون مدوياً، مع التذكير بأن هذا السقوط شرط موجب لقيامة الدولة ومشروع الوطن.
فالبيانات والتصريحات التي صدرت خلال اليومين الماضيين عن مراجع وقيادات مسيحية أساسية، أبرزها ما قاله غبطة البطريرك الماروني والذي بلور ما ورد في بيان مجلس الأساقفة الموارنة، ثم التصريح الأخير للرئيس كميل شمعون، مضافاً إليها ما لم يصدر بعد عن حزب الكتائب، كل ذلك يشير إلى عنف الزلزال الذي يجتاح الكانتون الأول والذي صار الآن الأخير في لبنان.
وبمعزل عن الخلفيات والأبعاد والاستقراءات البوليسية لقرار الدخول السوري إلى بيروت، وهو القرار الذي وصفته القيادة السورية ذاتها بأنه “مخاطرة كبرى”، فإن النتائج السياسية المباشرة لهذا القرار الجريء بدأت تظهر للعيان وتعطي ثمارها، وإن كانت ما تزال كجبل الثلج “المخفي منه أعظم” من ذلك الجزء العائم والبارز فوق سطح الماء.
إن بيروت واحدة، وهذه بديهية، شطرها قسمين كان يجتاح إلى ميليشيات وسلاح وذخيرة وقوات ومقاتلين وخط تماس ومتاريس ودشم وسواتر، أما إعادة توحيدها فتحتاج إلى ما هو أبسط وأخطر في آن: القرار.
ولبنان واحد، وهذه أيضاً بديهية، وتقسيمه كانتونات كان يحتاج إلى تحويل الصراع العربي – الإسرائيلي إلى مجموعة من الحروب الأهلية العربية، وإلى وضع الطوائف واحدة في مقابل الأخرى لتقتتل جميعاً بلا أمل في “النصر” لأي منها، وإلى ربط موضوع “الحد الأدنى من الإصلاح”، بالحد الأقصى من النجاح في حل “أزمة الشرق الأوسط” بتعقيداتها وتشابكاتها والعجز المتفاقم عن حسمها بقوة أهلها، أي العرب، ولمصلحتهم.
وفي جملة ما أكده الدخول السوري ودل عليه هاتين البديهيتين إذ حيثما توحدت السلطة، ولو بالمعنى الرمزي (سياسياً) والأمني (عملياً) سقطت أوهام الكانتونات أو احتمالاتها.
.. وسقطت أيضاً “مبررات” الاقتتال الطائفي التي عملت الأجهزة والمؤسسات المشبوهة والأجنبية عموماً، والإسرائيلية أو الصهيونية منها بشكل خاص على إعطائها طابعاً أيديولوجياً أو بعداً فكرياً أو حيثيات تاريخية ملفقة لم تكن لها في أي يوم.
فمن قديم الزمان عاش اللبنانيون جميعاً فوق أرض واحدة، وتقلبوا بين الأديان والطوائف والمذاهب، بحسب تقلبات ميزان القوى بين الأمبراطوريات أو الدول المستعمرة والمتحكمة ولكنهم لم يقتتلوا مرة واحدة لأسباب دينية… بل لعل الصراعات بين المذاهب، في كل دين، قد شهدت اقتتالاً، في حين لم يتخذ الصراع بين الأديان طابع الاقتتال الأهلي.
واليوم لا يختلف المسلمون والمسيحيون على موضوع الدين وإنما خلافهم – إذا صح ربطه بالدين، أصلاً – خلاف سياسي، وخلاف على السلطة ومواقعها، وليس على موقع الدين فيها بمجملها.
وفي الحاضر كما في الماضي لم يطرح انتماء رئيس الجمهورية الطائفي إلا من مدخل أو بمضمون سياسي محدد هو مدى كفاءته أو قربه أو بعده من العدل والإنصاف ومدى جدارته بموقع “الرئيس” أي رمز وحدة البلاد وسلامة أرضها وحق شعبها – كل شعبها – في التقدم.
إن المعايير بحت سياسية وليست دينية أو طائفية أو مذهبية أو حتى أخلاقية، ما ينطبق منها على المسيحي ينطبق على المسلم والأحكام واحدة ولا تراعي اختلاف الدين أو المذهب بين هذا وذاك.
وجوهر الأزمة التي تعيشها القوى السياسية، عموماً، هو سياسي، ولا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد.
وهذه الأزمة عامة تعاني منها حركة “أمل” الشيعية، والحزب التقدمي الاشتراكي “الدرزي”، وحزب الكتائب “الماروني” وصولاً على “حركة التوحيد” السنية، هذا حتى لا نذكر أشباه التنظيمات والدكاكين التي توسلت الطائفية أو المذهبية غطاء لأغراض قياداتها السلطوية.
بل إن هذه الأزمة قد مست أيضاً، ونتيجة للمناخ المسموم، الأحزاب المعتبرة علمانية،فعكست نفسها بهذه النسبة أو تلك على الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي (بغير أن ندخل في التفاصيل).
إن الجميع في أزمة،
وهذا ليس عيباً، فلقد شهد لبنان خلال بضع سنوات مجموعة من الزلازل المدمرة أخطرها وأفظعها زلزال الغزو الإسرائيلي وما ترتب عليه من نتائج تتجاوز مساحة لبنان إلى أقصى تخوم الأرض العربية مشرقاً ومغرباً.
وطبيعي أن تخلخل هذه الزلازل مجموع المؤسسات التي كانت قائمة، وأن تستمر تداعياتها المنطقية في التأثير على البنى جميعاً، سياسية واقتصادية وفكرية وثقافية، خصوصاً وإنها اخترقت النسيج الاجتماعي، وفرضت إعادة نظر متعجلة – بدافع الذعر أو اكتشاف خطأ التوجه أو الممالأة أو الرفض – في الشعارات والتوجهات والارتباطات والمناهج، بل هي قد هزت مرتكزات اليقين كالهوية والانتماء وموجبات الالتزام القومي.
لقد أنكر كل نفسه أو إنه تنكر لنفسه ذات يوم، البعض في البدايات.
والبعض مع اقتراب النهاية (ولو بالافتراض)،
والكل عبر الممارسة، وفي الحيز الذي اقتطعه لنفسه بقوة تحالفاته أكثر مما بغزارة نيران مسلحيه،
وها قد جاء أو إن الحساب، ولم يعد الإرجاء ممكناً ولا عادت الكلمات العائمة أو حمالة الأوجه أو المتعددة المعاني تنفع في تغطية العورات والكبائر التي ارتكبت بذريعة الظروف الاستثنائية أو كنتيجة لضغوطها.
الكل مطالب الآن بوقفة مع الذات يراجع فيها تجربته المرة، ويواجه فيها النتائج المريعة لهذه التجربة ويتحمل مسؤولياته حيالها.
لا مجال للهرب ولا لاختلاق الأسباب التخفيفية ولا للتذرع بالآخر، فالحساب مطلوب من الجميع وعلى الأصعدة كافة، في الداخل والخارج، مع البعيد ومع القريب، مع الصديق ومع الحليف وأساساً مع العدو الذي حافظ على صورته وما كان ممكناً إلا أن يحافظ على هذه الصورة لأنها حقيقته الوحيدة.
فلن يقبل عاقل أن تستخدم ذريعة صغيرة كمطالب الإصلاح المتواضعة لوجوه الخلل الفاضحة في مواقع السلطة وممارساتها كحجة لإدامة حرب أهلية تكاد تدمر، قبل السلطة وبعدها، البلاد ووحدتها أرضاً وشعباً ومؤسسات.
لقد أسقط الدخول السوري معظم مبررات الحروب الأهلية النقالة وارجع الأزمة الداخلية إلى حدودها البسيطة والتي يقر بها الجميع في “الشرقية” كما في الغربية، فما قاله البطريرك الماروني بالأمس عن الاصلاح وضرورته هو مضمون ما يقوله “المسلمون” عموماً،
أما الأبعاد الأخرى، الإقليمية والدولية، فلسنا الطرف المقرر فيها، فلماذا نستمر في وضع أنفسنا في موضع الأداة المنفذة للسيء والقبيح من أغراضها؟!
إن بوسعنا ، وعلينا، أن نتوحد في مواجهتها حتى نحصر انعكاساتها الضارة علينا جميعاً، خصوصاً وإن هذه الانعكاسات لن تميز بيننا على أساس من الدين أو الطائفة أو المذهب.
والخائفون من السلام أو من الحل في لبنان الآن هم الخائفون من أنفسهم ومما ارتكبوه بحق شعبهم وبلادهم.
لقد عبرت فئات الشعب كلها، وطوائفه إذا شئتم عن هدفها وأمنيتها وطموحها بوضوح: الكل مع الحل، والكل مستعد لأداء ما يتوجب عليه في سبيل الحل ومن أجل إنجاحه،
فلماذا المكابرة والتعنت والإصرار على سفك المزيد من الدماء، مع ملاحظة إن الاقتتال من الآن فصاعداً سيكون داخل كل طائفة وليس بين الطوائف،
وفي جملة دروس العاصفة الدموية المخيفة التي هبت على الشطر الغربي من بيروت، في منتصف شباط الماضي، فكادت تلتهم الأخضر واليابس، إن الاقتتال الذي بدأ مع الآخر سينتهي – طالما الكل محاصر في النفق المسدود – باقتتال مع الذات ينتهي بالانتحار الجماعي.
وهذه فرصة متاحة للقيادات السياسية وشبه العسكرية في “الشرقية” لأن تواجه أزمتها ذاتياً وتحلها ذاتياً وغلا فرض عليها الحل فرضاً، وبالقوة وبكثير من الدم الغالي يذهب هدراً ويحمل معه هذ القيادات نفسها والمؤسسات التي تتصدر واجهتها.
لقد جاءت لحظة الحقيقة والصدق مع النفس،
ولن ينفع الهرب، فما تحجم عن فعله أنت ستفعله قوى أخرى مدفوعة بقوة الواقع وحقائق الحياة وسنة التطور،
والرسائل علنية وواضحة من الشرق والغرب وما بينهما، بما في ذلك الفاتيكان وفرنسا وسائر الأصدقاء،
فلماذا إضاعة هذه الفرصة الثمينة والتي قد تكون الأخيرة؟!
لماذا هذه الشمشونية في غير أوانها وفي غير مكانها وبغير سبب يبررها، فالمتسبب فيها قاتل لا شهيد، ونتائجها لن تغير كثيراً مما تقرر أن يكون بإرادة الداخل كما بانتفاء أسباب المعارضة في الخارج، إلا الخارج على الجميع،
وباب التراجع عن الخطأ ما يزال مفتوحاً أمام كل راغب في ولوجه، وإلا ذهب المتردد نتيجة أخطائه، ولن ينفع السلاح ولا حتى الدولار في إبعاد هذه الكأس،
فلننقذ أنفسنا بالاختيار، وذلك أفضل بكل حال من أن ينقذنا الآخرون بالاضطرار، ثم نفقد حقنا في أن نكون، ناهيك في أن نحكم أنفسنا بأنفسنا.

Exit mobile version