طلال سلمان

على الطريق الحل: أن تعود الدولة دولة لبنان لا دولة الحزب والرجل الواحد!

حسناً، وماذا بعد لوم الدولة وتقريعها وتحميلها مسؤولية كل ما حدث ويحدث في البلاد، بما يوحي بتبرئة “الآخرين” الذين نهشوا لحم الدولة وأفقروها وشلوا قدرتها على الحركة؟
ما هو الحل؟!
… الحل الواقعي والذي يتعاطى مع الوضع الراهن ويعالجه في ضوء توازنات القوى القائمة وحركة الصراع في ما بينها، وموقع الدولة منها جميعاً، وبالتالي الدور الذي يمكن أن تلعبه على طريق حسم المسألة اللبنانية؟!
لنفتح الخريطة السياسية – العسكرية للبلاد، ولنناقش الاحتمالات المختلفة، مستبعدين – في هذه اللحظة – إمكانات التدخل أو المساعدة، العربية والدولية، مع التوكيد على أن هذه الإمكانات هي للدولة بقدر ما تطلبها لنفسها وبقدر ما نفيد منها.
من حيث المبدأ لا مشكلة للدولة لا في الشمال ولا في البقاع، باستثناء زحلة (وهي قيد العلاج الآن).
ومن حيث المبدأ لا مشكلة للدولة في معظم أنحاء جبل لبنان (خارج حدود الغيتو الكتائبي)، فالمؤسسات الرسمية والإدارات الحكومية تمارس دورها، بقدر الرغبة في ممارسته، بغير قيود تذكر في المتن الجنوبي، وفي قضاء عاليه، وفي الشوف كله بما فيه إقليم الخروب (مع استثناء الدامور).
ومن حيث المبدأ، أيضاً، لا مشكلة جدية للدولة في بيروت الغربية، على الأقل إن هي، أرادت أن تكون.
إن معظم مظاهر الفوضى والاضطراب والفلتان الأمني في بيروت الغربية إنما تتحمل مسؤوليتها الدولة، فهي التي تخلت تدريجياً عن واجباتها (ومن ثم عن مواطنيها)، تاركة الفراغ يغري من يشاء بتجربة حظه في ممارسة التسلط في غياب السلطة
طبعاً من السهل على الدولة أن ترد فتقول: – ماذا؟ أتريدونني أن اصطدم بالمقاومة الفلسطينية؟ لو تحركت دورية في بيروت لكان عليها أن تحصل على إذن مسبق من جهات كثيرة.
والرد بسيط وعملي: – هل جربت الدولة أن تمارس وجودها فقاومها أحد بما في ذلك المقاومة الفلسطينية؟!
ثم، هل بذلت الدولة في أي يوم، الجهد المطلوب لتنظيم العلاقة مع المقاومة، بحيث يدخل الناس طرفاً وحكماً على مدى الالتام وجدية الانضباط بما لا يمس سيادة الدولة وأمن المقاومة؟!
إن أشد المتعاطفين مع المقاومة الفلسطينية لا يقبل منها ولا يريد لها أن يتحول فدائيوها إلى شرطة في الروشة والحمراء والزيدانية وعائشة بكار والمرزعة وحتى في طريق الجديدة وصبرا.
ولكن ماذا يفعل هذا المواطن البائس إذا واجه موقفاً يضطره للجوء إلى “مرجع”، أو إلى جهاز أمني، وافتقد الدولة فلم يجدها… هل يبقى له غير أن يقصد “المرجع” المتيسر، والموجود والمستعد للتلبية، بغض النظر عن وضعه القانوني؟!
إن هذا المواطن قد يقف في وجه الدولة إذا هي حاولت القضاء على المقاومة الفلسطينية، لأنه يأبى عليها – أي الدولة – أن تدخل في حلف موضوعي مع العدو الإسرائيلي، ويمنعها من الخروج على أبسط واجباتها القومية.
لكن هذا المواطن نفسه لم يطلب ولم يقبل من المقاومة في أي يوم أن تكون بديل دولته. ولم يكتف منها بالموقف المبدئي بل انطلق ينتقد في العلن النزعات السلطوية التي برزت عند قليل من المنتسبين إلى المقاومة، وكذلك عند من أراد من القيادات الحزبية اللبنانية أن يستقوي بالمقاومة من أجل أن يتسلط.
إن “المعضلة” التي استعصى فهمها على الدولة حتى الآن تتلخص بالسؤال الآتي: كيف يكون الناس معي ومع المقاومة في آن؟!
والسؤال ليس جريمة، إنه أفظع: إنه مؤشر على غلط مريع في عقل الحكم… ولقد حكم هذا الغلط نهج الحكم ومفاهيمه منذ يومه الأول وحتى الساعة.
لقد نظر الرئيس الياس سركيس منذ تسلمه الحكم إلى ياسر عرفات وكأنه منافسه على حكم لبنان.
على الهامش قد يكون مفيداً أن نذكر بذلك الحوار القصير والواضح الدلالة الذي دار بين الرجلين في قمة الرياض، وهي القمة التي صاغت الحل السياسي للمسألة اللبنانية وأمرت الرئيس اللبناني على قوات الردع العربية.
قال أبو عمار ممازحاً الرئيس سركيس – نحن متفقان، الأخ الياس سركيس وأنا، فكلانا شهابي، ونظرتنا إلى الأمور واحدة.
ورد الرئيس سركيس: – أبداً، بل أنا رئيس جمهورية لبنان، وأنت رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وبيننا مشاكل خطيرة ومعقدة، نحن فيها طرف وأنتم الطرف الآخر. وأنا هنا لأشكوكم.
ولنتجاوز الذكريات إلى الوقائع.
تقول الوقائع أن الدولة قد تساهلت مع بشير الجميل وميليشياته تحت شعار ضرورة تحقيق توازن في القوى بين المسيحيين وخصومهم الفلسطينيين، وكانت الدولة ولعلها ما تزال تقول إنها لا تستطيع نزع بندقية الماروني قبل نزع آخر بندقية من يد الفلسطيني، لأن بندقية الماروني هي ضمانة حياته. وهو بحاجة إليها ولو لأسباب نفسية.
وهكذا في ظل التساهل المتمادي مع بشير كانت الدولة تضطر إلى غض النظر، أكثر فأكثر، عما يجري في بيروت الغربي… وتدريجياً صار التساهل سياسة رسمية معتمدة، وتقاربت مواقف الدولة مع مواقف “الجبهة اللبنانية” إلى حد التطابق.
ومع هذا التطابق لم يكن الدولة تنحاز إلى طرف من الأطراف فحسب، بل هي كانت تطعن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين (وبالتحديد كل من خاصم الكتائب أو خالفها في الرأي والقول)، في وطنيتهم.
كانت تقول لهم ضمناً أو علناً: – المهم أن نحل مشكلة الكتائب فتحل مشكلة لبنان.
وهذا يعني أن هؤلاء (الثلاثة ملايين لبناني)، لا شأن لهم ولا رأي فإذا خاطبت الفلسطيني – بالود أو بالخصام – وصلهم حقهم!
أي إنها هي دولة بشير الجميل ومعه. أما هو فلهم أن يختاروا بين الفلسطيني ومن بعد السوري، أو فليصبروا عليها ريثما تحل مشكلة الشيخ بشير فتنتهي مشاكلهم جميعاً!
وكان منطقياً، من ثم أن تسري هذه الروح، روم اعتبار الكتائب هي أساس البلاد، أرضاً وشعباً في مؤسسات الدولة جميعاً، بدءاً بالجيش مروراً بالأمن العام والأمن الداخلي والوزارات والإدارات الخ…
وكان منطقياُ أن تنقلب المعادلة التاريخية فبدلاً من أن يكون الكتائب حزب الدولة ورديفها، صارت الدولة دولة الحزب جيشها جيشه، سيفها سيفه، صوتها صوته وما خرج عنه نشاز.
وكان هذا طعناً جديداً للثلاثة ملايين لبناني في وطنيتهم، فالدولة هنا تتجاوز الشيخ بيار، هو يمتحنهم فحسب، ويفحص يومياً عدد الكرويات “اللبنانية” في دمهم، أما هي فتلغيهم تماماً في انتظار أن يطلب رئيس الكتائب احتسابهم والاعتراف بهم فيكون له – وليس لهم – ما أراد.
على هذا بات من “حق” الشيخ بشير أن يتوجه يومياً إلى اللبنانيين خارج الغيتو ليعدهم بـ “التحرير”، فإذا تم “تحريرهم” أكملت الدولة فضله فاسبغت عليهم نعمة المواطنية، أما قبل ذلك فهم لا أحد، لا شيء.
ذلك أن الدولة تعرف أن هؤلاء الثلاثة ملايين ليسوا “الفلسطيني”، وإن تحالفوا معه ضد العدو الإسرائيلي، وليسوا “السوري” وإن حرصوا وصانوا الرابطة القومية معه انطلاقاً من المصلحة الوطنية التي لا يمكن أن تتناقض مع المصالح القومية، ومن الإيمان بالمصير الواحد الذي لن يكون في لبنان غيره في سوريا (مع كل الاحترام للأزلية والسرمدية والأرزات العاجقين الكون)…
ونحن هنا لا نتحدث عن المسلمين وحدهم، فابن بشري وابن زغرتا وابن عكار الماروني، وابن الكورة الأرثوذكسي، وابن القاع والفرزل وحتى ابن زحلة الكاثوليكي، كان يخضع للامتحان نفسه: يسلم بقيادة الكتائب، ومن الكتائب آل الجميل، ومن آل الجميل بشير فتعترف به الدولة فوراً.
… وقائد الجيش وضباط وأنفار الجيش يكونون جيشاً للبنان بمقدار ما يخضعون للمجلس الحربي الكتائبي، فإذا ثاروا لكرامتهم العسكرية والشخصية، ولوطنيتهم، نزعت عنهم “اللبنانية” فوراً، وعاملتهم الدولة – بالتبعثية – وكأنهم خوارج على الشرعية.
في حين امتدت قصة سعد حداد لأكثر من سنة ونصف السنة، قبل أن تتحرك الدولة محرجة، لإعلانه خارجاً عليها… هو المقاتل جيشها بمدافع العدو الإسرائيلي!
ونعود بالحديث إلى السؤال – القضية: ما هو الحل؟!
والحل، ببساطة، أن تعود الدولة دولة: دولة كل لبنان وكل اللبنانيين، دولة الشمال والشرق والجنوب والجبل وبيروت بشرقها وغربها والبحر الأبيض المتوسط.
الحل أن تقول الدولة، على طريقة العسكر: الأمر لي!! أنا من ينظم العلاقة مع الفلسطيني ويحمي الخائفين منه ومن سلاحه، إذا شكل سلاحه تهديداً للسلامة العامة وبقواتي جميعاً: الشعب والجيش والردع والرأي العام العربي والدولي.
وبالمقابل: أنا من يحمي الفلسطيني من سلاح الميليشيات إذا هي حولته إلى صدره.
الحل أن تقول الدولة: أنا موجودة، إذن أنا أقرر، وتجلس مع السوري فتنظم وتقنن العلاقات بين القطرين التوأمين بوصفها هي – الدولة ولا أحد غيرها رمز الوطن، وبوصف رئيسها المسؤول عن استقلاله وسيادته وسلامة أراضيه.
الحل أن تعتبر الدولة إنها لا تقل وطنية عن بيار الجميل وانجاله الكرام، وإنها بالتالي هي المؤهلة والمخولة والمفوضة تنظيم علاقات لبنان (كله) بالآخرين، عرباً وأجانب، وهي القيمة والمسؤولة عن اللبنانيين جميعاً وفي اربع أنحاء العشرة الألف وخمسمائة كيلو متر مربع.
الحل أن تنتهي هذه المهزلة – المأساة التي نسمعها في إذاعة الكتائب: نفر من ميليشيا بشير الجميل يوجه أوامره إلى الدولة وإرادتها! افعلوا كذا. في جبيل وإلا! هيا توجهوا إلى الحديث وإلا!! اتصلوا بي فوراً على الرقم كذا لتلقي التوجيهات!
وبالتأكيد فإن ثمة أوامر مشابهة تذهب إلى قيادات في الجيش تؤمر فتطيع. أما لالتزامها حزبياً بالكتائب، وإما لخوف من أن تحاسبها الدولة على تقصيرها، وإما نتيجة الخضوع للمنطق السائد: “أليست الدولة القائمة دولة الحزب، والحزب رجل فرد اسمه بشير الجميل، فلماذا الدون كيشوتية وادعاء البطولة وركوب المركب الخشن؟!
الحل أن تعترف الدولة بالثلاثة ملايين لبناني غير كتائبي، وأن تقرر أن تكون دولتهم وأن يكونوا مواطنيها.
الحل أن يقرر رأس الدولة أنه هو مصدر الشهادات باللبنانية، وإن مجرد تنطح غيره لمثل هذا الدور ليس تجاوزاً على الحق والحقيقة والشرعية فحسب، بل أيضاً مما يمس به شخصياً وبكل مسؤول في هذه الدولة العزيزة الجانب.
الحل أن تعرف الدولة وتفهم وتسلم أخيراً بأننا لن نكون “كتائب”، ولن نسمح بأن يتحول لبنان إلى إسرائيل أخرى، مهما كلف الأمر.
لقد تجاوزت قيادة حزب الكتائب “الخط الأحمر”، إن على الصعيد الوطني أو على الصعيد القومي، ولم يعد الخلاف بين الثلاثة ملايين لبناني وبينها خلافاً سياسياً أو اجتماعياً أو فقهياً على الكيان والوطن وما بينهما على اللبنانية والعروبة.
الخلاف اليوم: هل نكون نحن بمفاهيمنا وقيمنا وتاريخنا وعقيدتنا وطموحنا المشروع إلى غد أفضل، غد عربي بالضرورة، أم تكون الكتائب ومن يحميها ويمهد لمشروعها السياسي المعادي لكل ذلك.
والحل في أن تحسم الدولة أمرها فتقرر إلى أي جانب تكون، فالدولة أمام الامتحان الآن، وليس حزب الكتائب.
وإذا حسمت الدولة أمرها ألزمت حزب الكتائب بأن يعود ما كانه من قبل: واحداً من الأحزاب السياسية في لبنان، له رأيه ووجهة نظره وعقيدته التي يصارع – ديمقراطياً – من أجل أن تكون له الغلبة فأن نجح كان خيراً، وإلا حكم غيره وعارض هو ودائماً تحت شعار: من أجل لبنان أفضل.
الحل أن تميز الدولة نفسها عن الكتائب، فلا تكون دولة الحزب… خصوصاً وإن قيادة هذا الحزب قد ربطت طموحاتها بما وراء الحدود.
وما وراء الحدود عدو للدولة بقدر ما هو عدو للبنانيين جميعاً، بمن فيهم الأعضاء العاديون في حزب الكتائب.

Exit mobile version