طلال سلمان

على الطريق “الحكيم” يقطع لسان أبيه!

في زمان “ماكو زعيم إلا الحكيم” لا حاجة للأقلام والألسنة والأفكار، محلية ومستوردة،
فمدعي النبوة، مثله مثل “المسيح الدجال”، ملهم ومكشوفة له الحجب، يرى ما لا يُرى ويدرك ما لا يُدرك، يقرأ الغيب ويجترح المعجزات فلا يكون راد لإرادته ولا يكون لقوته حد.
والملهم – الحكيم يقرر ولا يناقش. يشير ولا يستشير أو يشار عليه، يفرض بقوة الغيمان “برسالته” ولا يحاول أو يحاور، فطالب الحوار أما ضعيف الإيمان فتركه أولى وإما متشكك أو مجدف أو عدو مبين والرد عليه يكون برجمه وقطع لسانه أو قطع ذراته أو قطع رأسه، حيث يكمن الشر، أو بقطعها جميعاً لاستئصال الجرثومة الخبيثة، وهذا أنفع للناس…
والدنيا، في نظر الحكيم – الرسول، رجلان : مؤمن وكافر، للمؤمن خيرات الدنيا ومباهج الجنة الموعودة التي يمكن اصطناعها هنا، وللكافر جهنم على الأرض وفي الآخرة، وبؤس المصير.
والدنيا قسمان: داخل وخارج، الداخل واحد متوحد في شخص الحكيم – الرسول الدعي، عليه الطاعة وله بالمقابل الأمان ما أطاع فإن شق عصا الطاعة شقت رأسه وشقت عليه أرملته جيوبها والثياب، أما الخارج فخوارج لا حد معهم إلا السيف، فليسوا معنيين “بالرسالة”، وليسوا مدعوين للإيمان، إذ لا مكان لهم في “الداخل” الذي تطهر أخيراً منهم، فصار نقياً كدمع العين، ونقاؤه شرط وجوده، ولهذا فعليهم أن يرحلوا أو يرحلوا بعيداً عن الحدود التي يجب أن تبقى آمنة، وهم أهل ترحال، على أي حال، فليذهبوا إلى الشيطان أو “إلى حيث ألقت رحلها أم قشعهم” وليبقوا في صحراء وثنيتهم يعمهون!
وفقاً لهذا المنطق، يمكن أن يؤرخ بالأمس كموعد لإنجاز المهمة التاريخية الأخيرة التي قررها الرجل الذي يصنف نفسه “من بعد الله الحكيم” تجاه الحزب الذي أنجبه، إذ قطع له لسانه،
فلقد سقط بسقوط جوزف أبي خليل، وفرض الصمت الجبري عليه، آخر ما كان تبقى من “المؤسسة” ومن “المؤسس”، أي من الكتائب و”فتاها” الشيخ بيار الجميل: أي لسانها – لسانه المبشر، الداعية، المحرض، المعبئ، المهيج، المهدئ، المحاور، المبرر، المفذلك، المفلسف، المصوّر، المزوّر، كاتب أناشيد النصر والمراثي وأهازيج الصمود والعنفوان الكاريكاتوري والعناد المهلك: “لا النار تحرقه ولا كيد العدى…”!
ويخطئ أفدح الخطأ من يظن إننا نقول هذا القول من موقع الشماتة بالزميل الكاتب جوزف أبي خليل، الذي خاصمناه قبل أن نعرفه، ثم عرفناه فلم تنته الخصومة معه وأن نشأ إلى جانبها قدر من الود أمكن استنقاذه برغم اختلاف الرأي، أو ربما بسببه.
ولعلنا أقرب إلى الأسى ونحن نستقبل خبر غياب الرجل الذي رئس تحرير “العمل” فجعلها بقلمه المتقن صنعته وبلغته الطيعة، وبحواريته، تتحول من مترجم لجمل غير مفهومة يطلقها رجل مهووس، إلى لسان حال لحزب سياسي قدر له أن يحتل مكانة بارزة في الحقبة الأخيرة من تاريخ لبنان المعاصر، وأن يصل إلى سدة الرئاسة بأفضال الحرب الأهلية وتحت راياتها وبشعاراتها الهمجية في زمن الردة والتردي وملوك الطوائف.
فجوزف أبو خليل معلم من معالم الصحافة والكتابة الحزبية والسياسية في هذه الحقبة، ولا يمكن التاريخ للحرب الأهلية إذا ما تجاهله المؤرخون.
بل ربما كان في نظر البعض “أفضل كتائبي”،
فالحرس القديم، الشديد الغيمان، ظل على تطهره الشخصي، فلم يدخل حلبة النهب المنظم، ولم يغنم من عهد الهيمنة إلا الانتكاس والحزن واندحار أفكاره!
والرجل الذي تمثل كلماته وعاش دلالاتها من قبل أن يضعها على لسان بيار الجميل ويروج لها باسمه، شهد بأم عينيه هذه الكلمات تتدلى مشنوقة على سواري الأعلام المنتصبة أمام بيوت الحزب المتناثرة في “قلب لبنان” وعلى أطراف الملحقات.
فجوزف أبو خليل ذو نفس رسولي هو الآخر، ولكن من طراز مختلف: إنه لا يقتل وإن اضطره الحرص على دور الحزب في بطولة الحرب إلى تبرير القتل، وهو لا يقر السرقة، وإن كانت ظروف الحزب قد أجبرته على الصمت والتغضي عن السرقات الهائلة (والمستمرة).
ومؤكد إن أبا خليل عاش يحلم ويتصور ويبشر ويكتب لمجتمع آخر، متوهماً إن هذا المجتمع سينبثق من وراء الحرب بعد أن يكتوي بنيرانها فيذهب عنه الرجس،
ومؤكد إن التحزب أي التعصب لما يؤمن به قد أعماه عن رؤية الممارسات وتأثيرها في هدم “المثال”، وهكذا فقد رأى في الحرب الأهلية “ثورة”، وفي القتل على الهوية تحريراً، مما انتهى به لأن يؤمن بأن بشير الجميل هو “البطل” وهو “المحرر” وهو “الوعد” وهو بشخصه “الغد الأفضل”!
لعله رأى في بشير ما كان يفتقده في بيار الجميل، وما ظل يفتقده وينتقد نقصه في أمين الجميل… لعله افترض إن الحلم ببطل آخر، “لبناني”، “جبلي”، “جرجمي” قد تجسد أخيراً في هذا الشاب الذاهب إلى الخطيئة المميتة بشجاعة المقاتل من أجل الحق، والعائد من قلب الجريمة بصفاء المتسامح مع ضاربه على خده الأيمن!
ربما لهذا ذهب معه وباسمه إلى إسرائيل، بالبساطة ذاتها التي ذهب مع بيار الجميل وباسمه إلى دمشق، دون أن يرى تحرجاً أو فارقاً في الذهاب إلى الشقيق مرة وإلى العدو مراراً، فالقضية في نظره تتجاوز مثل هذه الحدود المصطنعة!
مرة أخرى يعلمنا التاريخ بتكرار ذاته ما نرفض أن نتعلمه من الدرس الأول.
إن هذه المؤسسات الطائفية غول لا يشبع،
إنها تبدأ بالتهام أعدائها وخصومها داخل الطائفة، ثم تحاول التهام الطوائف الأخرى، وتنتهي بأن تلتهم أبناءها بمن فيهم الذين أطلقوا نارها في الهشيم اللبناني!
المؤسس سخر المؤسسة، والمؤسسة سخرت الطائفة، والطائفة سخرت البلاد والعباد، حتى إذا تم للمؤسس الوصول بالقفز من فوق الأنقاض كان على ذريته الصالحة أن تدمر المؤسسة، فاستولدت من رحمها المؤسسة الأكلة، أي “القوات اللبنانية”، وهذه استولدت من أكل قياداتها، وغداً ستستولد من يأكل القائد – الحكيم – الملهم – الرسول – المسيح الدجال.
لقد تأخر جوزف أبو خليل في استيعاب الدرس: إن ما بني على غلط فهو غلط ولا يمكن أن يعطي إلا الغلط، وإن المتعصب إلى حد القتل ضد الخارج لا يتورع عن قتل المختلف في الداخل.
وحمداً لله، في أي حال، إن راس جوزف أبي خليل ما زال فوق كتفيه،
فصمت جوزيف أبي خليل الآن أبلغ من كل ما كتب قبل الحرب الأهلية وخلالها.

Exit mobile version