طلال سلمان

على الطريق الحكومة المعتذر عنهما!

بعد طول تردد، كالعادة، حسم العهد أمره في اتجاه الخيار الوحيد الذي أبقاه لنفسه منذ أمد بعيد فقرر تشكيل حكومة على صورته ومثاله: تشغل الفراغ في السلطة ولا تمارسها، تنتظر معه الفرج وتترك الحكم “للآخرين”، أي من الآخرين القادرين على أخذه!
وإنها لمفارقة طريفة أن يسبق التكليف والتشكيل (إذا تم) الاعتذار عنهما: فالعهد يعتذر بأنه إنما كلف من كلف مضطراً، ويعتذر سلفاً عن التركيبة المفترضة بأنه لن يقدر على الوصول إلى غيرها، بل حتى لكأنه يعتذر عن مجرد التفكير بتشكيل حكومة.
وإلى جانب الاعتذارات تتوالى التطمينات للقادرين إياهم، بطريقة تكاد تكون جارحة لشخص المكلف ولحكومته العتيدة.
فالعهد يعلن ويشيع ويذيع ويكاد يقسم الإيمان المغلظة للتأكيد على شرف القصد وحسن الطوية: فالحكومة، كما يقدمها للناس، لن تتعاطى السياسة، ولن تحكم كما لن تطالب بنصيب في الحكم، بل ستكون مهمتها أن ترعى وتحمي وتؤمن تجميد الأزمة حتى إشعار آخر، وهذه غاية المنى!
وكيف يمكن أن تكون حكومة تلك المعروف عنها إنها سلفاً إنها لن تقترب من المسائل والقضايا الأساسية التي لا حل لأزمة البلاد من غير التصدي لها بالعلاج الجذري، كائنة ما كانت مرارته وآلامه؟!
وماذا يمكن لشفيق الوزان ، أو غيره من الوجوه السياسية، أن يفعل طالما أن الأزمة تنام هانئة في القصر، بينما هو يعاني السهاد والارق والعجز في السراي؟!
لكأنما العهد متخصص في إلحاق الأذى بنفسه وبأصدقائه!
فهو قد ظلم وما يزال يظلم نفسه، ويظلم معه البلاد، بتردده الطوايل والقاتل الذي أضاع وما يزال يضيع عليه وعلى البلاد فرصاً ثمينة بعضها لا يعوض، فعلاً.
فحين يكون المجال متاحاً لحكومة سياسية يؤلف حكومة اختصاصيين وتكنوقراط، فإذا جاء أوان حكومة التكنوقراط يندفع وراء سراب الحكومة السياسية حتى يصبح في حكم المتعذر تشكيل حكومة عادية.
وهكذا يتم النزول درجة درجة حتى يصبح الطموح هو تشكيل حكومة “الكيف ما كان” فتكون النتيجة أن تولد الحكومة ميتة وأن تصبح عبئاً على العهد، وقبل، على البلاد وعباد الله الصابرين.
لقد ضيع العهد، في غمرة تذبذبه بين الممكن والمرتجى، قيادياً بارزاً هو بأمس الحاجة إليه، مثل سليم الحص، وخسر معه تغطية فعالة للحكم بما هو فعل وقرار ورؤيا تخترق الحجب والضباب ولا تضيع أبداً عن طريق بناء الوطن وبالتالي دولته.
كذلك فقد ضيع العهد سياسياً مجرياً هو تقي الدين الصلح
وها هو الآن يقدم إلى المحرقة شفيق الوزان،
فالمسألة ليست شخص رئيس الحكومة وقدراته، مع حفظ الفوارق بين رئيس وآخر، بقدر ما هي قضية الحكم: ماذا يريد تماماً، وكيف يمكنه أن يحقق ما يريد في ضوء الظروف والمعطيات القائمة داخلياً وعربياً؟!
وباختصار: ماذا يملك الوزان أن يفعل، على سبيل المثال وليس الحصر، في قضية ما يمكن تسميته “الدولة الكتائبية” الموازية للدولة اللبنانية التي يفترض أن يصبح رئيساً لحكومتها؟!
ماذا يملك والقرار في يد غيره، وصاحب القرار يعيش هاجس إشراك الكتائب، وآل الجميل تحديداً، في حكومة تكون بهم فعاليات ولا تكون بغيرهم لا فعالة ولا حكومة؟!
ثم، ماذا يملك الوزان، أن يفعل في القضايا المصيرية التي بين أبرز عناوينها: العلاقات مع سوريا، والعلاقات مع المقاومة الفلسطينية، أي جوهر الانتماء القومي للبنان؟!
ماذا يملك الوزان وصاحب القرار اكتفى من الغنيمة بإعلان مبادئ للوفاق لم يتأخر “القادرون” في نقضها، وبعضهم أعلن تنصله منها أمام باب القصر، وفور أن فرغ من التوقيع عليها!
نقول هذا الكلام ونحن لا نشك في النوايا الحسنة لشفيق الوزان،
لكن الحكم بالممارسة والقدرة على الممارسة وليس بالنوايا، وشفيق الوزان ممنوع من ممارسة الحكم، وصاحب الحكم – قبله – ممتنع أو ممنوع (؟) من ممارسته.
لقد قيل في تبرير “الخلاص” من سليم الحص أن الحكم لا يجوز ان يكون برأسين،
وأثبت درس تقي الدين الصلح أن الحكم لا يكون بالقفز من فوق حقائق الحياة (بما فيها علاقات الشعوب، أي التاريخ، والجغرافيا).
وأخوف ما نخافه على شفيق الوزان أن يكون اختياره قد جاء في وقت قرر فيه الحكم أن يقيم مملكة دستورية في جمهوريات الفوضى اللبنانية، مكتفياً لنفسه ولرئيس حكومته معه بالرمز، مثل ملكة بريطانيا، تاركاً السلطة لأصحاب الميليشيات وأبطال مشروع الدولة الموازية.
.. وهكذا تصبح دولتنا بجسدين بينما “الرأس” يكمل سيطرته على المرفأ، ويتابع بناء مؤسساته بهدوء، على حساب ما تبقى من كيان البلد وشرعية حكامه.
وإذا كان العهد قد خاطر، مرة أخرى، في محاولة المشي في الفراغ، فما نتمناه ألا يخطئ شفيق الوزان الخطأ ذاته، فيخسر مع الفرصة مستقبله السياسي، خصوصاً وأنه مقبل والعهد مدبر،
لقد حمى سليم الحص العهد ببقائه، ثم حمى نفسه من العهد بالمواصفات التي وضعها لخلفهز
وحمى تقي الدين الصلح نفسه بخروجه، بعدما أيقن أنه لن يمكن من تحقيق ما يبرر مشاركته في الحكم.
وخيار الوزان محصور بين هذين الحدين، هداه الله وأعانه، وحفظ لنا هذا البلد الجريح.

Exit mobile version