طلال سلمان

على الطريق الحكم يدخل الحرب…

دخل الحكم، بقضه وقضيضه. طرفاً مباشراً في “الحرب على الانتخابات” التي تشنها “المعارضات” التي توحدت على قاعدة طائفية أكثر منها سياسية، ومبدئية أكثر منها عملية وشخصانية أكثر منها حزبية.
وهكذا فقد وجد رئيس الجمهورية نفسه ملزماً بأن يدافع – شخصياً – عن القرار بإجراء الانتخابات، وأن يتصدى لمنطق “المعارضات” التي يستهدفه أكثر مما يستهدف أي طرف آخر.
هل هي حرب الرئاسة المقبلة؟
هل هي الحرب على زعامة الموارنة؟!
هل هي الحرب على قيادة المسيحيين؟!
إنها في بعض جوانبها كذلك، وإن تم تمويهها بشعارات فخمة كالديموقراطية والحريات العامة وحق الشعب في إعلان إرادته،
وهي كذلك حتى حين يدخل الدولار كسلاح ثقيل في جبهة المنادين بمقاطعة الحكم، وليس الانتخابات فحسب، ليستولد بالضغط الاقتصادي المزيد من أسباب النقمة والمرارة والأحقاد والتوجهات الانتحارية.
ولنحدد طبيعة “المعارضات” من خلال مطامح قياداتها:
فميشال عون تحاشى الاعتراف بجمهورية الطائف ورئاسة الياس الهراوي حتى وهو يعلن هزيمته أمام الهجوم العسكري الذي أنهى تمرده.
وهو كان، قبل ذلك، ومن موقع “رئيس الحكومة الانتقالية”، أعلن حل المجلس النيابي عشية انتهاء اجتماع الطائف وإعلان وثيقة الوفاق الوطني التي شكلت الأساس القانوني والسياسي للحل في لبنان.
أي إن ميشال عون لم يكن ينتظر القرار بالانتخابات لكي يعارض، ولم يكن موقفه منها ليتأثر لو أن الحكومة ارجأتها شهراً أو شهرين، سنة أو سنتين… وهو كان سيعلن المقاطعة ولو ظل وحده، لأنه في اللحظة التي يعترف فيها بهذا العهد وبحكوماته وبمجلسه يكون قد “استقال” من الموقع الذي نصب نفسه فيه كقائد لشعب لبنان لا يحتاج في العلاقة معه إلى أي وسيط، إضافة إلى كونه يرى أنه – حتى اللحظة – “الرئيس الشرعي” للدولة والأرض والشعب والمؤسسات.
أما ريمون اده، المعارض المستنكف الرافض المعتكف إلى حد القطيعة والمقاطعة من باريس، فما كان أي قرار ليبدل رايه في مبدأ العودة إلى لبنان… وهي عودة صعبة، ولعلها قد غدت مستحيلة عليه نفسياً، وتكفي نظرة إلى شروطه التعجيزية التي ما انفك يفرضها على جميع العهود ، من المرحوم الياس سركيس، إلى أمين الجميل، إلى ميشال عون، إلى الياس الهراوي، لفهم حقيقة موقفه.
لقد تبدل الناس جميعاً، وتبدلت الظروف جميعاً، وتغيرت خريطة المنطقة، سقطت عهود وقامت عهود، مات رؤساء واغتيل رؤساء، طارت حكومات وغطت حكومات. صارت حرب الخليج فبدلت الكون، وسقط شامير وجاء رابين، وها هو جورج بوش يكاد يطير و”العميد” صامد على رأيه البكر، لا يعدل فيه ولا يبدل كأنه الثابت الوحيد أو نقطة ارتكاز الكون!
وأما سمير جعجع فقد انهارت “دولته” من غير أن يتمكن من أن يعوض نفسه عنها بالدولة… و”فرطت” ميليشياه من دون أن يُمكن من الاستيلاء على حزب الكتائب الذي كان يراهن على استخدامه حصان طروادة في اقتحام موقع القيادة المسيحية، ومن ثم سدة السلطة في الدولة.
وهو قد والى من غير أن يسلم تماماً، لأنه كان يحاول وراثة ميشال عون، واكتساب “شرعية” تمثيله لبعض المسيحيين بعدما تعذر عليه نيل وكالة تمثيلهم بمجموعهم أو بأكثريتهم… فلما لم تفتح له الموالاة باب المصالحة، بما هي الجسر إلى الزعامة فالرئاسة، ارتد إلى المعارضة وتدرج منها في اتجاه المقاطعة، لعله ينجح هنا في ما فشل فيه عن طريق الموالاة.
يبقى حزب “الأحرار” وهو أقل أهمية من أن تناقش مواقفه التي تأتي دائماً كملحق للقوى الفاعلة… فهو كان خلق أمين الجميل، ثم سارع إلى الالتحاق بعون لما نقل إليه أمين الرئاسة في تلك الليلة المظلمة من أيلول 1988 (منتصف ليل 22/23 أيلول) فلما انتهى عون سارع إلى الالتحاق بجعجع، وها هو الآن يلتحق بالمعارضات التي رأت في الانتخابات أرضاً مشتركة لتلتقي عليها جزئياً مع استمرار الخلافات العميقة على حالها.
لقد قال الياس الهراوي كلاماً خطيراً في مجلس الوزراء أمس،
وهو كلام يتمنى الناس ألا يكون “نبوءة”،
فالانتخابات ليست هي القضية. إنها الذريعة، بالنسبة لهؤلاء الذين أضرموا نيران الحرب على مستوى لبنان، كما على مستوى الطائفة (من جعجع إلى ميشال عون إلى أمين الجميل).
والخوف هو أن تتحول الذريعة التي تستخدم الآن للمزايدة السياسية إلى سبب لشرخ جديد في هذا الجسم اللبناني المتهالك، وأن تؤدي بنتائجها إلى استئناف الحرب، ولو من دون سلاح.
فحرب الدولار أفعل في تدمير الحكم والمجتمع من الحرب بالسلاح،
والانشطار، مرة أخرى، على قاعدة طائفية، لا يؤذي الحكم، بل هو يدمر الدولة وربما الكيان.
وإذا كان من حق المعارضين أن يقولوا “لا للانتخابات” فليس من حقهم أن يحولوا هذا الإجراء السياسي الذي لم يبدل شيئاً في جوهر الصيغة السياسية للبلاد، ومن ثم في جوهر الحل، إلى حركة انقلابية تستولد مجدداً أجواء التقسيم وتشجع اللبنانيين على ركوب “سفن دين براون” ليهيموا على وجوههم في أرجاء الدنيا الواسعة.
إن ميشال عون لا يستطيع التراجع. إنه على شفا الهاوية فإن تراجع سقط فيها، وإن وافق على أي أمر تقره “السلطة الشرعية” كان كمن يعلن وفاته بنفسه.
لكن الآخرين يستطيعون اختيار أنماط أخرى، بينها الانتخابات، ربما لخوض المعركة ضد العهد إذا أرادوا، ومنافسة الياس الهراوي على زعامة المسيحيين، ومن ثم تسجيل أسمائهم كورثة شرعيين له.
إن المعارضة بالانتخاب معارضة فعالة، بل لعلها الأكثر فاعلية، خصوصاً وإن الكثير من اللبنانيين) خارج الدائرة المارونية المغلقة بالتعصب وتراث الحرب) لهم اعتراضاتهم على مجمل سياسات العهد وتوجهاته وممارساته وقراراته وآخرها الانتخابات.
فهذا النمط من المعارضة بالمقاطعة يزور لنفسه قضية، ثم يمضي في تضخيمها بحيث يصبح أسيرها، ويفرض على المواطن المزيد من التمزق بين خطأين قائلين: حكم لا يعرف كيف يحكم، ومعارضة تزيد بأخطائها من اعوجاج الحكم من دون أن تستطيع إصلاح المعوج من تصرفاته.
والحكم بدوره مطالب بما كان يفترض أن تطالب به المعارضة: أن يكون هو الحريص على تصحيح الخطأ والانحراف، وأن يكون قاضياً لا شرطياً.

Exit mobile version