طلال سلمان

على الطريق الحكم ودوامة الخوف!

كلما منح الحكم نفسه مزيداً من السلطات الاستثنائية تناقصت الثقة به وضعف الأمل بقدرة البلاد على استعادة حيويتها ودورة حياتها الطبيعية،
ولقد قبل الناس بالحكم بصورة استثنائية فسلموا مثلاً بالحكومة مضطرين، وأشاحوا بوجوههم حين تمت صفقة التعيينات النيابية، فلم يجهروا برفضها خصوصاً وإنهم كانوا يفترضون إنها ستكون آخر إنجازات هذا الجيش اللجب من الوزراء المتشوقين بمعظمهم إلى السلطة ومتعها ومنافعها العديدة والمفيدة واللذيذة!
وفي حين كان المواطن يراهن على أن يرى في هؤلاء صورة للدولة وجمهوريتها الثانية، فإنه قد افتقد – عبر ممارساتهم ومباذلهم – أي أثر للدولة، بل لعله قد توصل إلى يقين بأنهم – بمجملهم – عنصر نفي للدولة، إذ إنهم يحكمون من خارجها وليس من داخلها.
إنهم، في حالات كثيرة، يلغونها ليؤكدوا حضورهم،
وهم في حالات عديدة دمغوها بالطابع الميليشياوي بدل أن يكون دخولهم إلى رحابها فرصة ذهبية للتبرؤ من الميليشيات وتراثها الطائفي والمذهبي وسمعتها السيئة.
لقد شرعنوا تحكم منطق العصابات والمافيات والتسلط واغتصاب حقوق الغير، ومصادرة أملاك الدولة ومؤسساتها، محققين إنجازاً فريداً: تحويل “المزرعة” التي كانت سمة الجمهورية الأولى إلى “منهبة” أو “وقف ذري” لقادة العصابات التي اختزلت الطوائف والمذاهب.
والحق إن “زعامات” دولة الاستقلال كانوا أقل طائفية وأقل مذهبية وأكثر وطنية، بالمعنى العام للكلمة إذ كانوا يطمحون إلى مد نفوذهم على كامل الأرض اللبنانية، كذلك فلقد كانوا أقل طمعاً وأقل جشعاً وأكثر انفة، ثم إنهم كانوا “يخافون” الرأي العام و”يخجلون” من أن يتناول الناس سمعتهم بالسوء، فيعملون بالحديث الشريف “إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا”.
أما “بناة” الجمهورية الثانية فلا يخجلون ولا هم يخافون… إلا من ولي النعمة الشديد المقتدر!
وفي المقارنات اليومية التي يتداولها الناس يتبين إن أي واحد من “زعماء المصادفات” و”تعذر البديل” قد جنى في بضعة شهور ما لم يتمكن من تحصيله مجموع زعماء الجمهورية الأولى منذ قيامها وحتى سقوطها بالضربة الكتائبية القاضية أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان بكل نتائجه ومن بينها صعود ميشال عون و”حروبه” وتمرده وانهياره… في انتظار العفو الخاص الجاري تفصيله على مقاسه الفرنسي!
ولعل مشروع قانون العفو هو أحد مقاتل الحكم والحكومة ومعهما الآن المجلس النيابي وسمعة القضاء اللبناني،
إن الحكم يتصرف وكأنه يخاف من ميشال عون اللاجئ أكثر مما يخاف من شعبه الذي لا يجد السبيل لكي يسأل: – ولماذا لا يحاكم هذا الضابط المتمرد الذي ورط البلاد في حربين واغتصب الشرعية واختلس المال العام؟!
وجيش الوزراء المستمتعين بمنافع السلطة لا يهتم إلا بالانتهاء من هذه المشكلة التي تنغص عليهم “عزهم” وتبقيهم في ذعر من كابوس عون، فيتصرفون وكأنه أقوى منهم مجتمعين، بكل إنجازاتهم المعروفة والمخفية… وما خفي كان أعظم!
ومجلس النواب، بالمدد لهم من أعضائه والمعينين، يواجه المسألة بارتباك مضحك، فيسارع إلى إطلاق يد الحكومة والحكم في اجتراح أي حل يبعد عن “البرلمان” شبح الرجل الذي نزع عنه الشرعية!
كيف، إذن، بحكم لا يستطيع مواجهة رجل فرد اسمه ميشال عون، يمكن إعادة بناء البلد الذي هدم فيه هذا الجنرال أكثر مما هدم أمراء الحرب مجتمعين على امتداد ست عشرة سنة؟!
إن عدم محاكمة ميشال عون على ما ارتكبه بحق البلاد والعباد أبقاه “متهماً” مجرد متهم، وحفظ له بعض سمات “المظلوم”، في حين سقطت التهم ذاتها على الحكم: “لو كانوا أقوى منه لواجهوه، ولو كانوا أنظف منه لحاسبوه، ولو كانوا واثقين من مكانتهم عند الشعب لحاكموه”!
… ولو كان المجلس النيابي منتخباً وليس معيناً نفسه بالتمديد أو بالقرعة العشوائية واللوتو لكان باستطاعته أن يحمي قرارات الحكم بقوة ثقة الناخبين فيه،
ولو كانت الحكومة طبيعية، بولادتها وأعضائها ومهماتها، لما أمكن التشهير بمجمل تصرفاتها وتناول سيرة وزرائها بالسوء في كل محفل بوصفهم “تحالف عصابات ومافيات” وليسوا أطرافاً في حكومة وفاق وطني ومصالحة وطنية وإنقاذ وسلام وإعادة إعمار!
إن الحكم يفتقد إلى الطبيعية، ويفتقد إلى أبسط شروط الشرعية في نظام برلماني ديموقراطي،
ولا منقذ للحكم إلا الانتخابات النيابية، فهي وحدها القادرة على منحه الصفة التمثيلية المفتقدة، وعلى تحصينه في وجه ميشال عون وسائر أمراء الحرب الذين يخافون الانتخابات لأنها ستعني نهاية “دولهم” المتحكمة بخيرات البلاد واللاغية لوجود الدولة،
… والانتخابات وحدها هي التي تفتح الباب لقيام الجمهورية الثانية، هذا إذا افترضنا أن القابضين على السلطة يريدون لها أن تقوم في أي يوم!!
فالحكم الخائف يزرع الخوف على المستقبل في صدور مواطنيه، وافتقاره إلى الثقة بنفسه وبقدرته على ممارسة السلطة ينزع عنه ثقة الداخل والخارج، ويطرد الرساميل بدلاً من أن يستجلبها،
إن الخائف يخيف، فهو كلما أراد طمأنة نفسه ابتعد عن الناس الذين يفترض أنهم مع خصمه لا معه، وإنهم يتآمرون عليه، وإنهم لا يصدقونه، وإنهم… مهما فعل – لن يغيروا رأيهم فيه.
ودوامة الخوف لا حدود لها ولا نهاية، والتاريخ شاهد على “الدول” التي أسقطها حكامها في هذه الدوامة فلم تقم لها بعد ذلك قائمة وصارت أثراً بعد عين، أو ورثها “الشجعان” القادرون على مواجهة الآخر قدرتهم على مواجهة الذات ومحاسبتهم، وبهذا فقط يختفي الأشباح وتهدأ النفوس القلقة.

Exit mobile version