طلال سلمان

على الطريق الحفلة والمسافات بين الصفوف

عبر ليل الفرح اليتيم زمن البؤس اللبناني (والعربي) بسلام.
غنت فيروز وسمعها الناس كل من موقعه. التقوا لساعتين معها وعبرها ثم انفض حشدهم بسرعة قياسية، وعاد كل إلى ما كان فيه قبل “الحفلة” من هموم ومشكلات ومواقف مما يجري. كان لقاء خاطفاً ومسروقاً في فضاء الذكريات الحميمة.
كانت الكراسي متجاورة لكن الجالسين فوقها متباعدون. كل يراقب الآخر بطرف عينيه. فالجيرة في المكان لا تلغي اتساع المسافة بين الصف الأول والصفوف الأخيرة، ولا حتى بين كل مقعد والآخر في الصف الأول ذاته… كذلك فلقد كانت شاسعة المسافة بين الذين “تلاقوا” على شراء البطاقات الرخيصة وضحوا ببعض الخبز “من أجل أن يكونوا هناك”، ومن أجل ألا تفوتهم لحظة التعبير عن شوقهم إلى التوحد… ولو عبر صوت دافئ ويختزن الماضي الجميل.
في الصف الأول جلس “الكبراء” محصنين بمحاوفهم من الصوت والضوء، والليل والعطر، “الجمهور” و”النشوة” و”الأحلام الخطرة” في الخلف. كانوا نقطة بيضاء في بحر الحرس الأسود. كل أصناف الأمن كانت هناك، وبرغم ذلك لم يكن “الكبراء” منشرحين تماماً. كانوا يحسون أنهم محاصرون بكبيرين مهيبين: فيروز على الخشبة أمامهم، والحشد اللجب الذي لم يستقدموه هم كالعادة، ولم يوزعوا عليه الهتافات والشعارات، والذي لا يضمنون بالتالي ردة فعله على اقتحامهم خلوته مع الصوت الدافئ الذي لا يأتيه من خارج وإنما يسمعه وكأنه مصدر عنه.
في الصفوف التي في الوسط جلس كل أولئك الذي فقدوا منزلتهم المتوسطة في المجتمع، والذين باتوا الآن أعظم يأساً من أن يتخيلوا أنفسهم في موقع النخبة الذي كانوه ذات يوم.
من في الصف الأول يدفعهم يومياً إلى الخلف، وإلى تحت، يبعدهم ليس فقط عن مستوى الحياة اللائقة، بل أساساً عن الدور، أي عن مركز القرار، ولو كشريك ثانوي، أو كعنصر من عناصر التوازن الاجتماعي.
لقد كانوا “عصب الدولة” بمؤسساتها وقوانينها والتشريعات. وهم غابوا بغيابها، ولا تتم عودتها من دونهم. لكن الذين يبنون “دولة الغد” لا يتركون لهم مكاناً فيها. إنهم يبنون “دولتهم” هم لا دولة الناس، والقمة في دولتهم لا تتسع إلا لبضع مئات وليس لمئات الألوف. إذن فلا طبقة وسطى غداً. إذن فلا دولة.
وهم يعرفون أن لا أمل لهم في استعادة المكانة والدور إلا إذا عادت الدولة. لكنهم يلاحظون أن “الدولة” ما تزال رمزية الحضور وأقرب إلى دور “مخلص المعاملات” أو “الضيف الثقيل” كما هي هنا في هذه الحفلة.
ما هي صلة القربى بين المليار دولار والمليون ليرة؟!
وكيف يكون التوازن بين الحوت والنملة… فكيف بأن تزعم النملة بأنها هي هي عنصر التوازن والاستقرار؟!
في الخلف جلس البسطاء والفضوليون والراغبون في أن يسمعوا فيروز، وأن يبلغوا جيرانهم وأهالي قريتهم بأنهم “كانوا هناك”، تلك الليلة”.
في الخلف استقبلت “الدهماء” مواكب “الكبارء” بالهمهمة… ثم تحولت الهمهمة إلى شيء من الغضب عندما اكتشف الحشد أن مقتضيات تأمين السلامة للكبراء قد أبعدتهم أكثر فأكثر عن فيروز وهم قد جاؤوا ليكونوا، مرة، قريبين منها بحيث يتماهون فيها وتتماهى فيهم.
هل أخذوا منهم فيروز أيضاً؟!
هل هجرتهم فيروز فانحازت إلى أولئك الذين لا يعرفون معنى الطرف ولا يفهمون دلالات كلمات مثل الحب والحنين والوطن والياسمين وعلى ورنة عوده.. عالعالي!
هل خسروا فيروزهم كما خسروا بيروتهم، شارعها ومقهاها ومنتداها والكتاب وصحيفة الصباح؟!
هل اشترى أولئك الكبراء مع الأرض الأحلام والشمس والليل والدفء وهمسات العشاق الملتاعين بالهجر أو بالعجز عن تجديد الحياة… لعدم وجود بيوت للإيجار؟!
في الصف الأول كان الذهب يلمع مستفزاً كالفضيحة.
وفي الصفوف الأخيرة، وكل الصفوف أخيرة، كان الفقر يشع كالحقيقة. ها هو لبنان ما بعد الحرب: قلة قليلة من أغنياء المصادفات والصفقات وأكثرية كثيرة ممن أفقرتهم الحرب قليلاً وأفقرتهم حكومة النهوض الاقتصادي كثيراً.
لذلك كان مستهجناً أن تجد فيروز مكاناً تغني فيه للناس.
في الصف الأول، أو الصفوف الأولى، جلست الحكومات المتعارضة جنباً إلى جنب مع المعارضات الحاكمة منها والمحكومة، لا الأولى تملك تبريراً لاستمرارها في موقعها، ولا الثانية تملك القدرة على تغيير الواقع ومن ثم المواقع.
كان الحشد آحاداً. ترغب في أن تتقارب إلى حد التوحيد.
كان في الحشد المهجير والمهجر. من هجرته الطائفية ومن هجره الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب أو البقاع الغربي، أو من عقيدته وسنوات نضاله. وكل يرى في صوت فيروز أملاً باستعادته ذاته وتاريخه وبيته.
كان في الحشد الكثير من أولئك الذين اقتتلوا في الماضي. كان ثمة كثرة من السوريين وقلة ميسورة من الفلسطينيين وبعض عرب الأطراف، كالخليج وشمالي أفريقياز
هل كثير أن يتصالح الإنسان مع ذاته طالما قد فرض عليه أن يصالح عدوه. ترى ألم يكن الاقتتال الوسيلة؟
وكانت الدولة شيئاً مثل الوهم: المسدسات والبنادق والآليات كثيرة وتكاد تتصادم، لكن “المؤسسة” تكاد تتضاءل أمام الأشخاص وتكاد تذوب فيهم.
وفيروز عظيمة، لكنها لا تصنع دولة، ولا تلك مهمتها.
في الصباح كان الخبر الأول في الإذاعات أن رئيس دولة إسرائيل عيزرا وايزمان يجول في الأرض اللبنانية المحتلة، جنوباً، يستمع من قيادات الاحتلال الإسرائيلي إلى تقارير عن الأوضاع فيها، ويعطي تعليمات للاهتمام بمشكلات الأهالي…
ولعل فيروز قد وصلت إليهم، هناك،
لكن الدولة لم تقم بعد في بيروت لتدعي، من بعد ، أنها موجودة هناك، وإنها هي لا وايزمان المعنية بشعبها ولو تحت الاحتلال.
وفيروز لا تستطيع أن تأخذ معها الدولة إلى هناك.

Exit mobile version