طلال سلمان

على الطريق الجيش يتجه نحو الوطن!..

لولا إن أوضاع البلاد والعباد لا تسر الخاطر ولا تبشر بفرج قريب، لاعتبر الناس “القرارر” بإرسال “الجيش” إلى “الجنوب” إيذاناً بقرب انتهاء مسلسل الحروب الأهلية في لبنان.
فالقرار كبير وخطير، ومثير، في دلالاته ، ومعظمها كامن، و”مباغت” في توقيته إلا للراسخين في العلم،
والقرار الكبير خطوة على طريق الصح، بغير جدال، فالطبيعي أن يكون الجنوب هو مقر الجيش ومهمته وأمره اليومي وأن يكون التجرير علمه والشعار المقدس،
فالجيش لحماية البلاد من عدوها الطامع، والعدو يحتل بعض الجنوب ويهدد لبنان كله انطلاقاً منه،
يهدد المواطنين والتراب الوطني والمياه، ناهيك بالكرامة الوطنية والعزة والحرية والسيادة والاستقلال، ويهدد الوحدة الوطنية، والهوية القومية، والتوازن السياسي الداخلي،
أي إنه يهدد البلاد دائماً، بحرب أهلية مفتوحة، لأن اختراقه للنسيج الاجتماعي يحول على الفور ما هو “سياسي” إلى “طائفي”، ويقلب الصراع الديموقراطي الطبيعي إلى فتنة وإلى اقتتال بلا نهاية.
والقرار خطير لأنه يتضمن الاستعداد أو القدرة لمواجهة موانع التنفيذ التي استمرت، على امتداد سنوات الحرب الأهلية، تعطل الإرادة وتمنع المبادرة وتبقي الجيش شلوا في ثكناته تتجرأ عليه الميليشيات فتأخذ دوره، وتمزقه لتوزعه نتفاً على الطوائف والمذاهب ومصالح القيادات التاريخية، التي لشدة حرصها على موارد الدولة احتفظت بها في خزائنها المصفحة وفي حساباتها الخاصة.
والقرار مثير لأنه مغاير، للوهلة الأولى، للمنطق السائد، وخلاصة المنطق السائد إن الجيش يحتاج الكثير من الزمن والإرادة والإمكانات المادية والمعنويات لكي يستطيع القيام بجزء “ثانوي” من مهمته الأصلية يتمثل في توفير الأمن للمواطنين في الداخل.
صحيح إن الجيش يذهب “رمزياً” إلى الجنوب،
وصحيح إنه يقصد محطات معينة في بعض أنحاء الجنوب، وبهدف إلغاء بعض خطوط التماس هناك، وإنه لن يقاتل أحداً إلا من يهاجم فصائله وسراياه في مواقعها،
لكن الصحيح أيضاً إن مثل هذه المهمة البسيطة، كانت مستحيلة إلى ما قبل فترة وجيزة جداً،
ثم إن خطوط التماس المشار إليها تختفي خلف كل منها قوة إقليمية ذات شأن وتأثير ولها امتداداتها خارج لبنان،
فإذا تجاوزنا العدو الإسرائيلي، هناك “الفلسطيني”، وهو قوة إقليمية، وهناك أيضاً “الأصولي” بما هو “طليعة” للثورة الإسلامية في إيران، وهو بهذا المعنى قوة إقليمية مهمة،
على إن هذه الاستدراكات أو الإشارات لا تلغي الجوانب الإيجابية للقرار الخطير،
فان يحل “الجيش” محل الميليشيات في أي مكان من لبنان تطور نوعي ممتاز، كائنة ما كانت ملاحظاتنا على الجيش، بنائه وقياداته ودوره بكل تأثيراته على السياق السياسي العام في البلاد.
وبقدر ما استقبل المواطنون “الجيش” بالترحيب الحار والحفاوة البالغة وهو يخفف من قبضة ميليشيا “القوات اللبنانية” في الشرقية، ويحل محلها كمسؤول عن أمنهم ورزقهم وحريتهم في الحركة والتواصل مع سائر أخوانهم.
كذلك فإن أبناء الجنوب، بدءاً بصيدا، سيستقبلون بالترحيب والحفاوة هذه القوة الرمزية من الجيش الذاهبة، أخيراً، إليهم، في بعض مناطقهم، تعبيراً عن قرار “رمزي” آخر يعكس – على الأغلب – إرادات عربية ودولية إضافة إلى الإرادة الوطنية في بيروت.
“الجيش” عائد إلى الجنوب، هذا يعني إن الجنوب عائد إلى حضن وطنه لبنان، ولو رمزياً،
تماماً كما إن حركة “الجيش” في الشرقية عنت إن هذه المناطق في طريقها إلى حضن الوطن، ولو رمزياً،
وما أعزها لحظة تلك التي يرتفع فيها علم الدولة، علم الشرعية، علم الناس كلهم في البلاد كلها، بدل أن تظل أعلام الطوائف وميليشياتها تقسم الشعب وتفتت البلاد وتنعي الدولة ومستقبل مواطنيها.
إنها لحظة فرح، فلا بأس من إرجاء التحفظات، ولو إلى حين.
ترى، هل بدأ ربع الساعة الأخير في عمر الحرب، وهل شارفنا الفجر الأغر للسلام الوطني الموعود؟
هل صدر القرار الدولي المرتجى ببعث الدولة اللبنانية انطلاقاً من المؤسسة التي لما تتهدم كلية، الجيش، برغم كل ما أصابها من تمزق وتشرذم وما لحق بها (كمؤسسة وكأفراد) من امتهان؟!
هل يتحرك “الجيش” بشقيه حركة متوازية تقربه من لحظة استعادة الوحدة، عبر وضوح الدور والمهمة في الحاضر والمستقبل؟!
هل فتح ملف العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، أخيراً، وأين يقع الاتفاق بين حركة “أمل” وقيادة “فتح” (وبالتالي منظمة التحرير) من هذا التحرك؟!
وهل بدأ الإعداد للملف الأخطر، ملف مستقبل “العلاقات” بين الجمهورية اللبنانية والكيان الصهيوني، بالتنسيق مع الأمم المتحدة وعبر أمانتها العامة، انطلاقاً من القرار 425 الشهير؟!
هل صدعت إسرائيل، أخيراً، للإرادة الدولية،
بصيغة أخرى: هل أجبرتها الانتفاضة المجيدة في فلسطين المحتلة، ومعها المقاومة في جبل عامل، على قبول ما كانت ترفضه حتى الأمس القريب؟!
كل هذه الأسئلة لا جواب لها إلا من داخل هذا القرار “الرمزي” بإرسال هذه القوة “الرمزية” من الجيش الموحد “رمزياً” إلى الجنوب المحرر “رمزياً”، وبهدف إعداد النفس للمرحلة التالية التي يتداخل فيها “الرمز” مع الواقع المعاش.
برغم ذلك يظل القرار كبيراً وخطيراً وبشارة خير،
… ولسوف ينتعش الجنود الذين عرفوا الطريق إلى الصح، أخيراً، وهم يعبرون الأثير المضمخ بعطر زهر الليمون، في طريقهم إلى “بلاد بشارة” ، على كتف فلسطين.
ولسوف ينتعش أخوانهم وأهاليهم وهم يجدونهم يتموضعون حيث كان غيابهم أو قصورهم أو نقص عددهم والعدة بين أسباب هذه الحرب التي آن لها أن تنتهي بوصفها آخر الحروب في عالم التحولات… السلمية!

Exit mobile version