طلال سلمان

على الطريق الجيش لحماية الكتائب أم لحماية لبنان؟!

كلما هيأت الظروف والتطورات والحاجة الموضوعية فرصة أمام الجيش للعب دور وطني، عمدت الكتائب إلى توجيه ضربة جديدة إلى هذا الجيش، كمؤسسة، وإلى دوره العتيد.ك
فالجيش، في نظر الكتائب، رديف طائفي لها بشعارات الشرعية ورموزها، لا أكثر ولا أقل، فإذا ما حاول “التمرد” على هذه الوضعية شككت في “لبنانيته” وفي ولائه للكيان الطائفي الأزلي السرمدي والأبدي.
والجيش في نظر الكتائب “احتياط استراتيجي” لها تلجأ إلى توظيفه ضمن خطتها لاستكمال مشروعها السياسي، ملغية احتمالات تموه الطبيعي والسليم كمؤسسة رئيسية وضرورية لبناء ا لوطن اللبناني.
وهكذا فإن الجيش ممنوع، في المنطق الكتائبي، من الذهاب إلى الجنوب ومواجهة العدو الوطني والقومي (إسرائيل ومرتزقتها من أمثال سعد حداد)، لأن ذهاب الجيش إلى الجنوب يفرض عليه أن يخرج من حماة المستنقع الطائفي، ويدخله في مظهر وطني، فالمهمة هناك واضحة لا لبس فيها ولا إبهام وهي تقضي ببساطة بالدفاع عن التراب الوطني ومقاومة المحتل وحماية الصامدين من أبناء شعبنا في الجنوب.
كذلك فإن الجيش ممنوع، في المنطق الكتائبي، من لعب دور أمني داخلي بالاستقلال عن الميليشيات وبمواجهتها إذا اقتضى الحال. ومن هنا هجمتها عليه وتعطيل دوره “المتميز” في عين الرمانة، وإلزامه بأن يكون مجرد “فصيل مقتدم” لها، يمنحها الغطاء السياسي “الشرعي” الذي تفتقده، وينوب عنها في تلقي الصدمة الأولى إذا ما انفجرت النار، ويؤمن لها الحدود الخارجية لدويلتها الطائفية. بل ونظرة واحدة الى خريطة “دولة” بشير الجميل تكشف لكل ذي عينين طبيعة الدور الموكل الى الجيش في المساحة الممتدة بين جسر المدفون (بعد حاجز البربارة بقليل) ومرفأ بيروت (غير بعيد عن بيت الكتائب المركزي).
إن قوات الجيش هي التي تحمي، عملياً، “دولة” بشير الجميل، وتمنحها “حصانة” معينة في وجه أية محاولة لإسقاط “الغيتو” الكتائبي… فمدافع الجيش “الشرعي” ودباباته وأفواجه هي التي تشكل – عملياً – أسوار هذا الغيتو، وتحميه من أي مهاجم محتمل (كالدولة مثلاً؟)!!
كذلك الأمر في العاقورة، وتنورين وفاريا وصولاً الى عيون السيمان، وعلى أطراف المتن الشمالي والساحل الجنوبي (الحدث)، انتهاء ببدارون ووادي شحرور. وباختصار يمكن القول أن حوالي نصف وحدات الجيش “الشرعي” مسخرة ، فعلياً، لخدمة طموحات بشير الجميل في انقضاضه اليومي على الشرعية لقضم المزيد من مؤسساتها ومقوماتها ومواردها المالية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ميليشيات الكتائب تجبي “الرسوم” في المرفأ، تحت بصر قوة الجيش الموجودة في حرم المرفأ وعلى مسمع من جنودها الذين استحالوا حرساً، “للبيت المركزي”.
وعلى سبيل المثال أيضاً، نذكر أن ميليشيات الكتائب استولت على مرافق حيوية للدولة في جونية بينها المرفأ وهيمنت على المقدرات جميعاً، بما في ذلك الخافرات الحربية، في حين أن للجيش بين صربا والقاعدة البحرية قوات محترمة العدة والعديد.
والأمثلة أكثر من أن تعد وجميعها يصب في توكيد حقيقة أساسية: إن الجيش الذي تبنيه الدولة بأموال المكلف اللبناني، ينتهي إلى العمل لحساب ميليشيات بشير الجميل وطموحاته ومشروعه السياسي المناقض بطبيعته لوجود هذه الدولة وجيشها الوطني.
أن أن الدولة تبني من كيسها جيشاً لبشير الجميل، موفرة عليه تكاليف بناء جيش، بكل ما يتطلبه من تسليح وتدريب وتهجهيز، ناهيك بالرواتب وتعويضات غلاء المعيشة.
على أن كل ذلك يهون أمام الدور الجديد الذي تستدرج الكتائب الجيش إلى لعبه، والذي يلقى قبولاً من بعض القيادات العسكرية المشبوهة ممن جيوبهم مع اليرزة وقلوبهم وسيوفهم مع المجلس الحربي الكتائبي.
والدور الجديد أو المتجدد (إذا ما استذكرنا الفياضية وما جرى فيها وحولها قبل أربع سنوات)، يتلخص في توريط هذا الجيش الوليد والمشكوك في تماسكه كونه قد بني على قواعد خاطئة، بصدامات متتالية مع قوات الردع العربية.
والصدام بين الجيش والردع هو “الورقة الأخيرة” التي تراهن عليها الكتائب لنسف آخر ما تبقى من سمات الشرعية واستقلاليتها النسبية وقدرتها النسبية أيضاً على مواجهة المشروع الكتائبي.
فمثل هذا الصدام يمكن الكتائب من أن تقول ما تقوله اليوم بلسان أجهزة أعلامها النشطة، أي مبرر بقي للشرعية إذا كانت قواتها المسلحة (من جيش وردع) مشتبكة في ما بينها؟! ثم، فلتقل لنا الشرعية أي الجيشين جيشها، الجيش اللبناني أم الجيش السوري؟!
ومع واقع الجيش اللبناني، ومع حرج السلطة وضعفها المتمادي في وجه الطروحات الكتائبية، يمكن تدريجياً إغراء هذه السلطة بسحب تغطيتها “الشرعية” لقوات الردع، التي ستصبح وفقاً لهذا المنطق مجرد جيش سوري دخل لبنان عن طريق الخطأ ولا بد أن يغادره لتستقيم الأمور!!
والأمور لا تستقيم إلا بالتدويل وبقوات أجنبية (أميركية، أوروبية، كندية الخ… الله أعلم).
هكذا ببساطة كلية يتم إسقاط الحل العربي للمسالة اللبنانية، ومقررات القمم المتعاقبة، وتطمس حقيقة أن قوات الردع إنما دخلت لبنان بناء لطلب سلطته الشرعية (المدعومة آنذاك من الكتائب)، وإنها باقية فيه تنفيذاَ لقرار عربي (ولبناني، ودولي)، وإنها مكلفة فيه بمهمة قومية نبيلة، وإن استمرارها فيه ضرورةوطنية وقومية غير قابلة للنقاش في مواجهة أطماع العدو الإسرائيلي (التي تتجسد احتلالاً لأرضنا)، واتفاقات كامب ديفيد.
ولنا أن نتصور انعكاس هذه الطروحات الكتائبية على مشروع الحل المطروح لمأساة زحلة. والذي يقضي في بعض بنوده بدخول قوة من الجيش إلى المدينة مع بقاء الردع على الطرقات الدولية وفي التلال الضرورية لتأمين هذا الطريق من خطر القنص الكتائبي.
إن أبسط نتيجة لتورط الجيش في صدام مع الردع ستكون إطالة أمد المأساة في زحلة، ففي ظل تعبئة حاقدة كالتي تقوم بها الكتائب للجيش يصبح من الصعب تصور قبوله طرفاً محايداً في زحلة، وفي أي مكان آخر.
لقد سلمت قوى كثيرة في لبنان، ومعها سوريا والمقاومة الفلسطينية، بدور الجيش في الجنوب، متجاوزة الأخطاء القاتلة في بنائه، انطلاقاً من أن طبيعة مهمته هناك كفيلة بتصحيح عيوب البناء والتكوين، كما أن الظروف الضاغطة لا تمهلنا ما يكفي لإعادة بناء الجيش وفق الأسس الوطنية الطبيعية.
كذلك سلمت هذه القوى مجتمعة، وهي قوى مقررة، بدور للجيش كعازل في بعض نقاط التماس، لتوفير عنصر الاطمئنان لمن لم يعد يرى في الردع ما يكفل اطمئنانه، وتجاوزت هذه القوى عيوب البناء والتكوين في الجيش انطلاقاً من أنه لا يمكن أن يلعب دوره المرجو إلا بالتنسيق مع الردع والتعاون معه.
ومن نافلة القول إن غياب التنسيق والتعاون سيفرض على الجميع إعادة طرح قضية الجيش من أساسها، والتصرف انطلاقاً من الاعتراض المبدئي والثابت على إعطاء أي دور لهذا الجيش الذي يحمل عللاً قاتلة في تكوينه ذاته.
إن الجميع مع بناء وطني للجيش، ومع دور وطني للجيش.
أما إذا لعب الجيش – بالانحراف أو بالتوريط أو بالغفلة – دور الكتائب فسيكون الموقف منه الموقف نفسه من الكتاءئب بميليشياتها ومجلسها الحربي وقائدها بشير الجميل.
وللدولة، بعد، حق الكلام في هذا الموضوع الخطير، فإذا هي تهاوت أو تساهلت أو تورطت لم تكن تقضي على نفسها فحسب، بل إنها ستكون المسؤولة تاريخياً عن إنهاء لبنان.
ولا نظنن للحظة أن الرئيس سركيس يرتضي لنفسه مثل هذا الدور، وهو الباحث عن مكان في التاريخ انطلاقاً من نجاحه في حماية وحدة لبنان.
فحذار حذار: أن اللعبة أخطر من أن يجوز معها الصمت، أو التردد أو ادعاء العجز والتستر خلفه.
إن لبنان يمكن أن يعيش بلا جيش معتل، في انتظار أن تتوفر الفرصة التاريخية المنشودة لبناء جيش وطني.
لكن اللبنانيين لا يمكن أن يقبلوا أن يتحول جيشهم إلى “كتائب” أخرى، مهما كانت الأعذار والمبررات وأخطاء الآخرين.
واللبنانيون لم يفقدوا الأمل، في أن تكون في الجيش، بعد، روح وطنية كافية تعصمه من الانتحار ومن نحر لبنان.

Exit mobile version