طلال سلمان

على الطريق الجنرال مورفي!

من حق اللبنانيين، ولعل من واجبهم، ومعهم سائر العرب، أن يعتبروا إن الأميركيين بموقفهم المتعنت والرافض لأية تسوية مقبولة للأزمة اللبنانية، إنما يحمون النتائج السياسية الباقية للغزو الإسرائيلي للبنان في صيف العام 1982.
إن الدبلوماسية الأميركية تقاتل الآن على “خط شارون” العسكري، وتزيد في تحصينه وفي توفير أسباب ثباته، بعدما كادت تذهب به المقاومة الشعبية في لبنان معززة بالانتفاضة المجيدة لشعب فلسطين في أرضه.
إن “الجنرال” مورفي يحمي”إنجازات” الجنرال شارون،
فالموفد الأميركي الذي يماحك في دمشق، ويعيد طرح عروض قديمة مرفوضة، إنما يحاول أن يحمي أبرز ما تبقى من آثار العدوان الإسرائيلي، قبل ست سنوات.
*إنه يحاول أن يمنع استئصال حكم الانقلاب الكتائبي بوجوهه المختلفة، السياسية منها والعسكرية،
*إنه يحاول أن يحفظ لأمين الجميل سمات “الرئيس الشرعي” حتى وهو ينهي عهده بمشاريع قرارات خطيرة من شأنها – لو نفذت – أن تجرعنا الكأس المرة التي أمكن تجنبها على امتداد سنوات الحروب الطويلة، وهي كأس التقسيم الفعلي والقانوني!
ومن حق اللبنانيين أن يعتبروا إن إدارة ريغان هي المسؤولة عن تمزيق وحدة لبنان وقيام حكومتين فيه، إذا ما نفذ أمين الجميل “تهديده” بإعلان حكومة ثانية يوم بعد غد (الاثنين).
*وسخيف هو التبرير الأميركي السائد للاعتراض على سليمان فرنجية بحجة إنه تصادمي، كأنما القائم في الحكم هو عنوان الوفاق وفارسه المغوار.
*إن الذي يحمي موروثات حكم أمين الجميل إنما يمنع الوفاق ويعطل المصالحة الوطنية ويضرب إمكان إعادة بناء الدولة.
لقد فشل أمين الجميل، برغم حظه الذي يفلق الصخر، وبرغم الفرص المتكررة التي أعطيت له أو انفتحت أمامه، وبرغم الظروف التي خدمته كما لم يحلم في حياته، في إنجاز أي من المهام الطبيعية لأي رئيس حريص على النجاح، أولاً، ثم على الإسهام في إنقاذ بلاده وشعبها من المخاطر الهائلة التي تهددها.
على النقيض تماماً، سلك أمين الجميل المسلك الذي يحول المشكلة إلى أزمة، ثم إنه استولد من الأزمة الأولى مجموعة من الأزمات، فانسدت سبل الحلول ونسفت فرص التسوية، ووصلنا مع نهاية عهده إلى جملة استحالات كدستها النتائج المريعة لفشله المتكرر في صياغة الحلول أو تبنيها، ولإبداعه الفريد في استعداء القوى، داخلياً وخارجياً، بحيث تعطل الحوار تماماً في البلاد ومعها.
*و”الجنرال” مورفي يحاول أن يحمي مع أمين الجميل ركائز حكمه التي هي في الوقت نفسه بعض نتائج الهجوم الآخر الذي قاده الجنرال شارون.
*فهو لا يظهر أي استعداد للمساعدة في تأمين الانسحاب الإسرائيلي، على النقيض تماماً: إنه يحاول أن يستبقي لإسرائيل “الشريط الحدودي” أي بعض ثمار الاحتلال العسكري، وأن يحمي بالتالي عميلها أنطوان لحد، ومرتزقته في الجنوب، والحفاظ على وجود “القوات اللبنانية” ودورها في مركز القرار ببيروت.
*وهكذا يمكن الضغط، أولاً بحقيقة إن الجنوب ما زال رهينة في يد المحتل الإسرائيلي،
فإذا قصر هذا الضغط عن أداء المهمة كاملة تحرك ردفاء اللحديين في بيروت، أي الجعاجعة،
أي إن البعض يهدد وحدة الأرض، والبعض الآخر يهدد وحدة الشعب، وبين الاثنين أمين الجميل، الرمز الأول لحكم الانقلاب الكتائبي، يحصد الثمار المحرمة، على حساب مصير البلاد وشعبها.
*لكأنما “الجنرال” مورفي، ومن خلفه سائر القيادات الأميركية، تقامر بمصير المسيحيين في لبنان، ومفهوم إن ذلك يشمل بالنتيجة مصير المسلمين ومن ثم لبنان كله.
إنهم يتصرفون وكأنهم حصروا تمثيل الموارنة والمسيحيين في الذين تعاملوا ويتعاملون مع إسرائيل.. فهم الآن، وهم وحدهم، أصحاب الكلمة والقرار في “الشرقية” وبقوة السلاح وحده.
لكأنهم يضعون “الفيتو” فعلياً، على كل ماروني طبيعي مؤمن بالعيش وبالوحدة وبالاستقلال والسيادة في لبنان عربي وديموقراطي.
فهم يحاولون أن يجعلوا أدوات إسرائيل والمتعاملين معها ناخباً أكبر في لبنان.
لقد سلموا. فقط، بأن ينزل رمز الانقلاب الكتائبي عن سدة السلطة، لأنه لا بعد أن ينزل،
ولكنهم يحاولون أن يؤمنوا استمرار هذا الانقلاب، كتوجه وكسياسة، عبر الخلف الصالح للسلف الكتائبي الصالح.
وهم يخيفون اللبنانيين، والمسيحيين منهم على وجه الخصوص، بالدبابتين الإسرائيليتين: الأولى في الجنوب، والثانية في قلب بيروت المشطورة شرقية وغربية، ومعهما قوة إسناد أميركية مموهة ببعض النجدات “العربية” الآتية فقط للقتال ضد سوريا ودورها في لبنان، أي ضد هوية لبنان وانتمائه القومي،
ومن أسف إن حظنا لم يسعدنا في استقبال هذه النجدات أيام الغزو، ومن ثم الحصار الإسرائيلي،
ومن العوامل المطمئنة إن هذه “النجدات” التي تقاتل ضد الشعارات المعلنة للذين يبعثون بها وبسخاء، وضد طموحات وأهداف الشعبين الشقيقين الفلسطيني والعراقي، تفضح طبيعة التحالف العجيب القائم في “الشرقية” وتحرج أطرافه جميعاً، وتؤكد استحالة استمراره… تماماً كما هو مستحيل تحقيقه لأي نصر.
إنه حلف للشغب وللهدم ولتمزيق ما تبقى من لبنان ووحدته،
ولسوف يحاسب عليه أطرافه جميعاًن
فلا الكتائبي المقاتل العروبة في لبنان (وفي سوريا) سيقنعنا بعروبته بالدينار الذي يأتيه من صدام حسين، أو بالمساعدات اللوجستية التي توفرها جماعة عرفات،
… وسيكون صعباً على الكتائبي أن يكون “إسرائيلياً” وفي عداد المقاتلين لتحرير فلسطين في آن،
كذلك سيكون صعباً على المتباكين على عروبة لبنان وحريته ووحدته أن يقنعوا أحداً بأن هذه الأهداف جميعاً تتحقق عبرتحالف، ولو تكتيكياً، مع الاختراق الإسرائيلي لقلب لبنان.
إن “الجنرال” مورفي يخوض معركة يائسة،
وإذا كنا نحاول أن نفهم أسباب الروح الانتحارية في مسلك اللحديين والجعاجعة فإننا لا يمكن أن نفهم لماذا تتورط واشنطن في مثل هذه المغامرة البائسة، وتزيد في تورط بعض اللبنانيين بتبني طروحاتهم التقسيمية و”الفيتو” عنوانها التمهيدي.
لقد نسف أولئك جسورهم مع ما هو طبيعي في لبنان، مع طوائفه جميعاً بما في ذلك الطوائف المسيحية، ومع الاعتدال، بوصفه شرط حياة لهذا البلد بتوازناته الهشة، ومع “الشرعية” بما هي دولة يستظل رايتها اللبنانيون جميعاً ويؤكدون عبرها وحدتهم،
لقد دمروا الدولة (وبالطبع ساعدهم بعض “الحلفاء” في الضفة الأخرى)!
وهم يظهرون إصراراً على تغييبها، لأنها إن هي عادت غيبتهم،
ومن هنا فهم يحاولون أن “يهرّبوا” بعضها لحسابهم، بحيث يقيمون في “الشقفة المهربة” دويلتهم التي ستكون إسرائيلية الهوى حكماً،
إنهم يريدون أن يحموا رؤوسهم بقطع رأس لبنان وتمزيق جسده الصغير،
إنهم يقولون الآن: إنها معركة حياة أو موت بالنسبة إليكم،
وهم يحاولون أن يفرضوا هذا المنطق الانتحاري على اللبنانيين جميعاً،
والسؤال الباقي: لماذا يساند الأميركيون هؤلاء؟
هل هم بذلك يعززون الديمقراطية في النظام الذي اعترفوا، ألف مرة، بأنه أشوه ولا بد من إصلاحه؟
هل هم يساعدون على استئصال سرطان الطائفية السياسية، التي اعترفوا بأنه من المخجل أن يناقش استمرارها أي مخلوق طلعت عليه شمس القرن العشرين، فكيف بالقرن الواحد والعشرين؟!
هل هم يحمون وحدة لبنان وسيادته واستقلاله وقد أتعبونا بترداد إيمانهم بهذه الأهداف النبيلة،
إن الخلاف مع دمشق.
لكن المعضلة في بيروت، وبين أسبابها المباشرة هذا الموقف الأميركي المتعنت والرافض لأية تسوية مقبولة للمسألة اللبنانية.
ويبدو إن الأميركيين يصرون على إجبارنا أن نفهم، أخيراً، إنهم متطابقون في كل شأن عربي مع الإسرائيليين،
ويبدو أيضاً إنهم مصرون على إجبارنا أن نفهم، أخيراً، إنهم يتعاطون معنا كعرب، لا فرق بين لبناني وسوري (وفلسطين وعراقي واستطراداً سعودي ويمني ومصري وليبي وجزائري الخ..)، إلا بالموقع من.. خط شارون وخطته.
لكن البعض ما زال يراهن على أن يتنبه ريتشارد مورفي أخيراً، إلى أنه أميركي وليس إسرائيلياً، وإلى إنه دبلوماسي وليس جنرالاً، وإلى أنه آت لكي يساعد على الحل وليس لكي يعزز الجنوح إلى الانتحار!

Exit mobile version