طلال سلمان

على الطريق الجمهورية المشروخة!

مع بداية السنة الثالثة من عصر الوفاق الوطني الذي “ضرب” في الطائفن يكاد اللبنانيون يفتقدون الأساس السياسي لهذا الوفاق بقدر ما يفتقدون الثمار الاقتصادية والاجتماعية لقيام هذه “الجمهورية” التي لا يعرفون كيف يصنفونها ولا كيف ينتمون إليها.
جمهورية “الزمور” يقول البعض،
فهي قد جاءت بـ “زمور”، وعاشت مذعورة من “زمور”، وكاد يصدعها ويطيح بحكومتها، بعدما أطاح بعيد استقلالها والاستعراض، “زمور” مجرد “زمور”!
ذلك إن الطوائف “تزمر”، ولكل طائفة “زمورها” الخاص، وإذا علا بوق “زمور” على بوق “زمور” آخر كان ذلك إنذاراً بتعمق الشرخ وتزايد الفجوة بين الطوائف!
كذلك فلكل مذهب “زموره” وإن تعددت النغمات بتعدد “الفعاليات” أو “المرجعيات” أو “القيادات” التي أخذت المذاهب من المسألة إلى الحرب، ثم أعادتها إلى وهدة اليأس بعدما كبدتها أغلى الضحايا وأبهظ الأثمان وأعز الأحلام التي كانت تلوذ بها لاستيلاد الأمل في غد أفضل!
والمرافعة التي اختتم بها مجلس الوزراء “خلوته” مساء أمس بذيئة، وفيها منتهى الاستهانة بعقول الناس ومشاعرهم، كما إنها نموذجية في احتوائها على أكبر كمية ممكنة من المستحيلات والأوهام الفجة التي لا علاقة لها لا بالواقع ولا بالحقيقة خاصة!
ففي حكم لا يتفق فيه رئيس مع رئيس، ولا حدود فيه بين رئيس و”أمير”، أو بين “أمير” ووزير، ولا مسافة تفصل بين الاستنساب الخاص والمال العام، وبين المصلحة الشخصية و”المصالح الوطنية العليا”،
وفي ظل حكم ما التقى من أطرافه اثنان إلا وشتما ثالثاً، وما اجتمع أربعة إلا ولعنوا عشرة من زملائهم الغائبين، وما دافع مرتكب عن نفسه إلا بكشف تورط أقرانه وزملائه في فضائح أخطر وأشنع من فعلته.
وفي أفياء حكم ضاعت فيه التخوم بين الوزارات والعصابات وبين الإدارة والمافيات، وانتفى الحياء، بعد الخوف من أية محاسبة أو مساءلة أو حتى مناقشة،
… يجرؤ وزير على التوجه إلى الجمهور قائلاً: “إن الحكومة جادة في حل الاشكالات التي تبرز أحياناً!! وهي تضع صيغة الوفاق الوطني فوق كل اعتبار!! وهي لن تتساهل لا مع نفسها ولا مع الغير”؟!
من الصعب أن تجد بياناً رسمياًن في أي مكان أو زمان، يتضمن مثل هذا القدر من الأضاليل والترهات، ويصل في استغباء مواطنيه إلى هذا الحد واعتبارهم مجرد قطيع من الهبل والمعاقين، أو، وهذا هو الأخطر، مجموعات من المتواطئين والضالعين أو المنتفعين من عصر الفساد المستشري كالسرطان أو الجرب البلدي!
كل وزير لص إلى أن يثبت العكس، ومن الصعب أن يثبت، كما يقول الناس،
وكل “رئيس” متستر على عصابة من الأقارب والمقربين أو أكثر، حتى تظهر براءته، ومن شبه المستحيل أن تظهر مثل هذه البراءة،
ثم إن الحكم، بأطرافه جميعاً، يرى في نفسه قدراً للبلاد والعباد لا غنى عنه ولا بديل منه، إذ هو ذهب ذهبت واندثروا، وبالتالي فلا تهم عيوبه أو مباذله طالما إنه ضمانة الوجود والمصير!
بعيداً عن مباذل الحكم وارتكاباته، أو نتيجة لهذا كله، تتفاقم في البلاد مشكلة الانتماء إلى البلاد والاهتمام بوحدة أرضها وشعبها، ويتضاءل الإحساس بالمسؤولية عن المصير،
وبالتأكيد فإن الشروخ في “المجتمع المدني” هي اليوم أعمق وأفدح آثاراً مما كانت حتى في زمن الحرب الأهلية.
إن الحكم المتربع على القمة لا يدرك تماماً مدى الضرر الذي تلحقه ممارساته بالثوابت والبديهيات الوطنية التي كانت الحصن الأخير لوحدة لبنان واللبنانيين،
إن “الاشكالات التي تبرز أحياناً” قد أعادت قسمة اللبنانيين واستثارت غرائزهم الطائفية والمذهبية بحيث تحول “الزمور” إلى قضية!
فإذا كانت “الترويكا” هي صيغة تلفيقية لبلورة تحالف الطوائف الثلاث الكبرى فإن أي اختلال (أو إشكال) في العلاقات الشخصية أو حتى الأمزجة بين الرؤساء الثلاثة يكشف كم هي هشة هذه “المصالحة الوطنية” التي ارتؤي تجسيدها في هذا الثالوث الطريف!
وإذا كان مجلس الوزراء هو المؤسسة العتيدة للوحدة الوطنية فإن العلاقات المرضية في ما بين الوزراء وفي ما بينهم وبين رئيسهم أحياناً، ثم بين الرئيسين، أو بين المؤسسة كاملة والمؤسسة الأخرى (مجلس النواب) تكشف كم إن المؤسسات شكلية لا تصمد لهفوة أو لنكتة أو لصفقة لم تراع فيها حقوق الطوائف والمذاهب عبر رموزها أو أصنامها المذهبة!
يسقط الشهداء في الجنوب، أطفالاً ونساء ورجالاً، مدنيين وعسكريين، فلا يهتم بهم أو يتأثر بمناخهم الصحي السادة المحامون فتأتي انتخابات نقابتهم فضيحة وضوءاً كاشفاً لعمق الهوة التي تفصل بين ناس النخبة، وإن كل مجموعة ما تزال تغلق على نفسها الباب، تعيش خوفها من المجموعة الأخرى، وفي لحظة المواجهة تسقط المجاملات واللياقات وشكليات التعايش السمجة، ويذهب كل فريق في طريقه مبتعداً عن “أخوانه”، ويسقط مشروع الوطن في الهوة التي تنفتح بلا قرار بفعل هذا التباعد،
وتجيء بعدها انتخابات نقابة أطباء الأسنان لتؤكد إن ما وقع في نقابة المحامين ليس مجرد غلطة وليس استثناء وليس نبتاً شيطانياً جاءت به المصادفات، وإنما هو من فعل فاعل وبقصد قاصد، وله مبرراته وأعذاره الكثيرة وأخطرها عجز الحكم عن تجسيد فكرة الدولة وهدف الوحدة أرضاً وشعباً ومؤسسات.
ثم يقول مجلس الوزراء ببساطة إن الحكومة مستمرة في مواجهة مسؤولياتها!! وباقية حتى تحرير الجنوب!! وتنفيذ ما تبقى من اتفاق الطائف!
إلى من ترفع الشكوى والظلامة؟!
وأين ترفع الدعوى ضد “الزمور”؟
للمناسبة: لم يسبق إن لعلع “الزمور” في السماء اللبنانية قدر ما يلعلع هذه الأيام، ففي دولة لها أكثر من مائة رئيس (من مستوى الجمهورية إلى مستوى البلدية) تتهاوى مواكب الكبراء بلا انقطاع في مختلف النواحي والجهات، هي “تزمر”، والخصوم يردون عليها “بالزمور” الكيدي، ثم يسارعون بعد عبورها إلى الحيطان ليضيفوا إلى التزمير التعبير المباشر باستدعاء “الغائب” ميشال عون لكي ينقذهم من الزمامير والزمامير المضادة!
إن الكل يجار بالشكوى: رئيسث الجمهورية، رئيس مجلس النواب، رئيس الحكومة، الوزراء، بمن فيهم أولئك المطلوبون لخدمة العلم، النواب بشقيهم الدائم والمستجد بالتعيين،
وكل يرمي الآخرين بدائه وينسل،
الطريف إن الجمهور فقط لا يجد من يستمع إلى شكواه وظلامته، فكلما ذهب إلى مسؤول أثبت له إن الشركاء الآخرين هم المسؤولون عن التعطيل، إما لأنهم متعصبون لطوائفهم أو لمذاهبهم. وإما لأنهم منتفعون ومتواطئون مع أصحاب المال والمستغلين وأبطال الفضائح ذات الرائحة أو تلك المعقمة.
على إن الجميع يطمئنون الجمهور إن لا حل، وإن لا خيار أمامه غير الاعتصام بحبل الصبر لأن الصبر طيب والشكوى لغير الله مذلة ولا بد سيأتي الفرج ذات يوم إذا صبر لأن الله مع الصابرين.
وهكذا ينصرف المواطن راضياً مرضياً، فيضع يده على “الزمور” تعبيراً عن سعادته بالوفاق الوطني الميمون وخيراته العميمة التي جاءته بالجمهورية الثانية والجسم بثلاثة رؤوس وحكومة الثلاثين وتلك هي، بالتأكيد، ثالثة الأثافي!

Exit mobile version