طلال سلمان

على الطريق الجمهورية أم الرئيس؟!

بعد إعلان استقلال الدولة، العام 1943، وبين يومنا هذا في نهايات آب 1988، لم يحدث إلا مرة واحدة أن اختارأصحاب الكيان اللبناني ا لأبدي، السرمدي والخالد، الجمهورية بدلاً من رئيسها.
كان ذلك في مثل هذه الأيام من العام 1952، حين قررت “الطائفة” أن تخلع الرئيس الذي تجاوز حدة فأعد العدة للتجديد لنفسه، بشارة خليل الخوري، وجدد فعلاً وأمضى نصف الولاية الثانية في قصره بالقنطاري، ثم “اختار” أن يتنازل عن نصفها الآخر حجباً للدماء ومنعاً للدمار وحرصاً على “الطائفة” وأحقيتها بالرئاسة الأولى، واستطراداً بالرئاسات الأولى جميعاً في جميع مواقع السلطة.
بعد تلك التجربة الخاصة جداً، لم يحدث أن تساهلت “الطائفة” في موضوع “الرئيس”، وبالتالي الرئاسة، وأحقيتها فيها، إلى حد الدمج بين الاثنين، ومن ثم بينهما وبين النظام الفريد والكيان الخالد!!
واعتباراً من تسنم كميل شمعون سدة الرئاسة خلفاً للرئيس “المخلوع”، لأنه خرق “العرف”، ثم الدمج النهائي بين شخص الرئيس وسدة الرئاسة (كحق مطلق للطائفة)، وبالتالي النظام والكيان.
وإذا كان كميل شمعون هو الذي سن “السابقة”، فإن من تعاقبوا بعده على الرئاسة حرصوا على تقنينها وتشريعها حتى بات منصب الرئاسة في مثل أهمية الدستور والعلم ذي الأرزة الدائمة الخضرة!
كان الأمر في البداية “امتيازاً” للطائفة بأن يكون الرئيس منها،
ثم تحول الأمر فصار من حق الرئيس أن يكمل مدته مهما بلغ حجم المعارضة لممارساته وسياساته في الداخل والخارج!
صار “الرئيس” بشخصه بعض حقوق الطائفة،
ولأن حقوق الطائفة لا تمس، ولا يجوز أن تمس، فقد انسحب ذلك على شخص الرئيس، فصار فوق النقد والاعتراض، ومن “واجبه” أن يكمل مدته حتى يومها الأخير، حرصاً على حقوق الطائفة، أو امتيازاتها أو ضمانتها التي لا يمكن تجسيدها إلا في شخص الرئيس وفي منصب الرئاسة!
هكذا وبكل بساطة صار الرئيس الماروني تلخيصاً لجميع الموارنة في لبنان، ورمزاً لهم (من دون سائر اللبنانيين)، فإذا ما انتقد اعتبر النقد تهجماً على الطائفة وحقوقها، وإذا ما قامت في وجهه معارضة لسياساته اتهمت المعارضة بأنها تهديم للميثاق وخروج على الصيغة وتجديف على النظام ومؤامرة على الكيان الخالد كما أرزة “منتورة” الأبدية الخضرة!
عملاً بهذا المنطق، أكمل كميل شمعون مدة ولايته حتى يومها الأخير، لأن نزوله عن السدة قبل انتهاء سنواته الست، كان لحساب المعارضين من “غير الموارنة”،
وعملاً بهذا المنطق استقال فؤاد شهاب ليعيد انتخابه “الموارنة” الذين كانوا غير متحمسين لانتخابه ومتشككين في ولائه للطائفة التي انتهى نسبة إليها،
وعملاً بهذا المنطق أيضاً فقد رعى شارل حلو ولادة “الحلف الثلاثي” ونموه وتزايد نفوذه وتأثيره بحيث ألغى ما كان تبقى (أو يمكن أن يتبقى) من الشهابية، وكوفئ بأن حمته “الطائفة” من ردود الفعل المحتملة، وقوته بوجه الشهابية وعسكرها والمكتب الثاني ومن معه!
عملاً بهذا المنطق أيضاً وأيضاً فقد تعهدت “الطائفة” بالرعاية عهد الرئيس سليمان فرنجية! برغم انفجار الحرب الأهلية وتفاقم مخاطرها، وحمت بقاءه في سدة الرئاسة حتى اليوم الأخير، برغم العريضة النيابية الشهيرة التي طالبت بتنحيه والتي طاف بها على النواب (يومذاك) الشيخ أمين بيار الجميل (ما غيره)، وكان “للطائفة” ما أرادت، لأن “الطائفة”، في آخر الحساب، أقوى من “حزبها” الكتائبي!
… ولقد طوقت “الطائفة” الرئيس الراحل الياس سركيس، وزين له “الخبراء” أمر الاستقالة، فكان أن استقال من أجل أن “يتحرر” من الضغوط “الأجنبية”، ثم عاد عنها بعدما اطمأن إلى أنها ستتوقف حتى نهاية عهده!
… ولقد انتهى عهده ببشير الجميل رئيساً،
وكان ذلك إعلاناً صريحاً من “الطائفة” بأن الرئيس أهم من الرئاسة: والرئاسة أهم من النظام، والنظام من الكيان،
فلقد اعتبرت “الطائفة” إنها إنما تتجسد كامتيازات وضمانات، في شخص “الرئيس” الذي يشكل الضمانة للرئاسة (وصلاحياتها) والنظام (وديموقراطيته وبرلمانيته العجيبة) والصيغة الفريدة ومن ثم الكيان الخالد.
تقزم كل هؤلاء فصاروا ضمن “الشخص”،
صارت “الطائفة” وحقوقها والامتيازات متضمنة في شخص الرئيس، وبهذا صارت الرئاسة أقل أهمية من “الشخص”، وكذا النظام وحتى الكيان، فإذا مس الشخص أو هدد في وجوده على رأس السدة انهار كل شيء!
وجاءت تجربة أمين الجميل فضاحة وبمثابة “ضربة قاضية” لهذا المنطق الأعوج،
فعبر الإدانات المتلاحقة للشخص وممارساته ، في الإدارة، في الجيش، في الاقتصاد، وفي السياسة، كانت “الطائفة” تفقد من “أهليتها” للحكم وتولي مسؤولية “النظام” وتبرير وجود الكيان (وهو في نهاية المطاف قرار سياسي لا أكثر)!
ولأن أمين الجميل خسر بكفاءة نادرة ثقة الطوائف الأخرى، بل وحتى ثقة “الطائفة الممتازة”، فقد أصابت الخسارة “أصحاب الحق الإلهي” في حكم هذا الكيان الذي إنما أقيم من أجلهم،
وهكذا فعندما جاءت ساعة الخيار فقد اختارت “الطائفة” ابن رمز جموحها إلى محاولة احتكار التمثيل، للرئاسة والنظام والكيان، معرضة نفسها لمقامرة خطيرة سرعان ما لاقت نتائجها البائسة، وهي لما تزل تدفع ثمن ذلك الخيار الخاطئ!
اليوم وبعد ثمانية أيام من الجلسة الناقصة النصاب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، خلفاً للشخص الذي استبقته “الطائفة” في موقعه، برغم عيوبه وارتكاباته وخطاياه السياسية، يمكن القول بوضوح: إن الطائفة قد ربحت تعطيل الجلسة ولكنها ربم تكون قد خسرت الرئاسة والرئيس.
فمن الواضح إن الجلسة الثانية لانتخاب رئيس جديد هي من الصعوبة بمكان، حتى ليرجح العارفون ألا تعقد أبداً،
وإذا لم تعقد الجلسة المرتجاة ، فقد “طار” الرئيس،
وإذا ما طار الرئيس فقد طارت الرئاسة،
وإذا ما طارت الرئاسة، هذه المرة، فإن أبسط النتائج أن يصبح حق الطائفة في الرئاسة موضع نقاش على أقل تعديل!
… وماذا يمنع، في 24 أيلول، أي مواطن لبناني بلغ ال3ثلاثين من عمره أن يتقدم إلى انتخابات الرئاسة، معتبراً إن “الطائفة” الممتازة “أعطيت ملكاً” فلم تحسن سياسته ومن لا يسوس الملك يخلعه”؟!
لقد ربح المتطرفون في الطائفة ومصادرو قرارها نصراً شكلياً مدوي الطنين هو تعطيل جلسة انتخاب الرئيس، لكنهم تسببوا – على الأرجح – في أن تخسر الطائفة الرئيس وربما لرئاسة،
ولقد يفكر “المنتصرون” فيمضون في مكابرتهم إلى نهايتها، فتكون النتيجة أن نخسر جميعاً الجمهورية!
… وينتظر الكثير من اللبنانيين، الآن، بلهفة، أن يسمعوا من قيادات “القوات اللبنانية” الذين يحتلون شاشات التلفزيون وميكروفونات الإذاعة، وبكل اللغات، تبريرهم لأسباب الخسارة في معركة الرئاسة والرئيس وربما الجمهورية ذاتها.
هل سيقولون إنهم خسروا “الجمهورية” من أجل أن يربحوا الكانتون؟!، وهل يعوض هذا عن تلك؟!
وهل سيقولون إنهم إنما ضحوا بالرئاسة والرئيس من أجل مصالح إسرائيل في لبنان، نكاية بسوريا؟! وهل ستعوضهم إسرائيل هذه الخسارة؟!
أم تراهم سيعتبرون إنهم إنما قاموا بعملية انتحارية حماية للمصالح الأميركية في لبنان والمنطقة… ومن تراه كان يهدد هذه المصالح فعلاً، فيما عدا رعونتهم؟!، ثم هل تراهم هم ، المفلسفون والواقفون على باب بغداد ومنظمة ياسر عرفات في انتظار الصدقات، قادرين على تعويض تلك المصالح؟!
ثم ماذا ينفعهم أن تربح الولايات المتحدة مصالحها ويخسروا هم لبنانهم والرئاسة والرئيس فيه؟!
القضية هي الجمهورية،
أما رئاسة الجمهورية فتفصيل،
ومن أسف إن “الطائفة” عبر مصادري قرارها والمتحكمين بإرادتها (قهراً)، تقامر بمصير هذه الجمهورية كلها،
علماً بأن لا وجود لـ “حقوق” الطائفة، ناهيك بامتيازاتها والضمانات، خارج هذه الجمهورية، والفرصة، بعد، متاحة لأن نحمي “الجمهورية” من مهددي وجودها والمقامرين بمصيرهاز
والكلمة مطلوبة، الآن، من “الطائفة” أولاً،
فهل تراها تضحي بجمهوريتها وبمصالحها كافة من أجل، أو خوفاً من “الشبيحة”، ومن قاهري إرادتها بقوة السلاح، وبضغط الارتهان للقرار الإسرائيلي – الأميركي؟!
هل تضحي بالجمهورية من أجل حكم الانقلاب الكتائبي الذي عرض، أكثر من أي “خصم”، آخر، وجود هذه الجمهورية وموقع “الطائفة” فيها لخطر الاندثار؟ّ!
ذلك هو السؤال،
والكل في لبنان وخارجه في انتظار جواب “الطائفة” على هذا السؤال المصيري الخطير!

Exit mobile version