طلال سلمان

على الطريق الجلاد قاضياً فمن هو الإرهابي؟

مظلوم قراقوش!
لقد اتخذ عبر التاريخ، رمزاً للأحكام الجائزة والبطش والقمع واغتصاب حق الغير بقوة السلاح، المموه بشرعية الحاكم ولي الأمر،
لكن قراقوش كان، في نهاية المطاف، فرداً، ولم يخطر بباله أبداً أن يضع ويرعى قيام نظام عالمي جديد، ولا هو ادعى أنه النموذج الأرقى للديموقراطية وحامي حمى حقوق الإنسان،
أما اليوم فإن “قراقوش” بات مصدر التشريع ومحقق العدالة ورائد التقدم الإنساني في عالم القرن الواحد والعشرين، الذي تعهد الرئيس الأميركي جورج بوش بأن يكون “قرناً أميركياً كما كان من قبله القرن العشرون”.
وإلى جانب “قراقوش” الكبير في واشنطن يقوم “قراقوش” إسرائيلي صغير على أرض فلسطين يقلده ويأتم به، بل قد يسبقه أحياناً موفراً عليه عبء التجارب وأكلافها المعنوية.
هنا سنكتفي بنموذجين فاقعين عن “عدالة” القرقوشين: الصغير والكبير، وكلاهما يتصلان بالعرب وقضاياهم وبقايا النضال من أجلها.
النموذج الأول: إسرائيلي
فلقد كشف النقاب، وعبر صحيفة أميركية صغيرة تصدر في فلوريدا ، عن حادثة اهتز لها الجيش الإسرائيلي، وأربكت حكومة رابين وقد تعرضها لعاصفة قاسية من النقد، داخلياً ودولياً.
“حصلت الحادثة في الخامس من هذا الشهر، وفي قاعدة تزيليم، جنوبي فلسطين المحتلة، حيث كانت وحدة خاصة تقوم بالتدريبات الأخيرة، عشية تنفيذ عملية سرية جداً تستهدف قيادة “حزب الله” في الضاحية الجنوبية من بيروت.
“كانت الوحدة تتدرب على عملية يفترض تنفيذها في اليوم الثاني، أي يوم الأحد 6 تشرين الثاني الجاري، هدفها اغتيال الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله، بواسطة رجال كوماندوس إسرائيليين يتنكرون بثياب مدنية وتوجهمما إحدى مروحيات سلاح الجو الإسرائيلي المجهزة خصيصاً لهذه الغاية.
“ونتيجة خطأ ما، انفجر أحد الصواريخ فتسبب في قتل خمسة من الجنود الإسرائيليين، أثناء التدريب، مما أدى إلى صرف النظر عن العملية… حتى إشعار آخر”.
لا يهم، الآن، كيف يبرر رابين ومعه كبار القادة والزعماء السياسيين والعسكريين الإسرائيليين هذه العملية،
المهم إن واشنطن (ومثلها سائر العواصم الغربية) لم توجه تهمة الإرهاب إلى إسرائيل، بل إن الصحف العالمية الكبرى مهتمة فقط بتحديد هوية المسؤول المباشر عن الخطأ، في قيادات الجيش الإسرائيلي.
فليس إرهاباً، في نظر تلك العواصم، أن يقوم جيش إسرائيلي باغتيال قائد سياسي لبناني في بيته،
ولقد سبق لهذا الجيش أن نفذ قبل شهور قليلة عملية خاصة اغتال خلالها سلف نصر الله السيد عباس الموسوي.
يومها، أيضاً، لم تعتبر واشنطن ولا العواصم الغربية الأخرى، تلك العملية إرهاباً، وإن كانت سارعت – كالعادة – إلى المطالبة بضرورة ضبط النفس!!
النموذج الثاني : أميركي!
في “نشرة الأنباء العربية الصادرة عن وكالة الأعلام الأميركية في واشنطن” ليوم الاثنين في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1992 نص حوار جرى بين الصحافيين الأميركيين، وبين الناطق باسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر، نقتطف منه ما يلي:
“قال باوتشر أن سوريا يجب أن تنهي مساندتها للجماعات الإرهابية وتتوقف عن توفير ملاذ آمن لهم قبل أن يرفع اسمها مما يسمى بـ “قائمة الإرهاب” التي تصدر كل عام…
“وقال باوتشر أن السوريين يعرفون دواعي قلقنا بشأن توفيرهم لملاذ آمن لجماعات إرهابية ومساندتهم لها، وهذا هو سبب بقاء اسم بلادهم مدرجاً في قائمة الإرهاب، لقد أبلغونا أنهم يودون أن تسفر زيارة أي وفد آخر عن رفع اسم بلادهم من القائمة..
“والجدير بالذكر أن وزارة الخارجية تنشر كل عام قائمة بأسماء الدول التي تساند الإرهاب، ونشر القائمة هو أمر ينص عليه القانون وإدراج اسم دولة في هذه القائمة يحرمها من الحصول على مساعدات أميركية، وتضم القائمة الحالية كوبا وإيران والعراق وليبيا وكوريا الشمالية وسوريا”.
أي أن الولايات المتحدة الأميركية التي شرّعت قانوناً يجيز لمخابراتها أن تختطف أي إنسان من أي بلد أجنبي، وتحمله إلى واشنطن لمحاكمته والحكم عليه،
والولايات المتحدة التي تطلق جيوشها في أربع جهات الأرض، فتغير طائراتها على بلد صغير مثل ليبيا مستهدفة اغتيال زعيمه، أو تنزل قواتها المسلحة في بلد صغير آخر لاقتلاع رئيسه واحتجازه، وحمله إلى أرضها وسجنه ومحاكمته، أو تجتاح بجيوش العالم كله المتحالفة تحت لوائها، والمغطاة بقرار من مصدر الشرعية الدولية، ممثلة بمجلس الأمن، بلدأ عربياً كبيراً مثل العراق وما جواره في الجزيرة والخليج.
الولايات المتحدة هذه هي التي تصنف “الإرهابي” من بين دول العالم، من دون أن يجرؤ أحد على مخالفتها أو رد التهمة إليها، حتى وهي تمارسها علناً وجهاراً نهاراً وعلى عينك يا تاجر،
الجلاد هو القاضي فكيف يستقيم ميزان العدالة؟
إرهابي هو ذلك المواطن الذيث يحلم بالحرية ، فيحمل سلاحه الفردي ويهاجم دولة يحتل جيشها بيته وأرضه،
وإرهابي هو ذلك الطامع إلى تحقيق إنسانيته والذي يرفض تقسيم بلاده وتمزيق شعبه، فيرفع راية المقاومة طلباً للوحدة والكرامة،
أما القتل الجماعي للشعوب فمسألة فيها نظر،
توفير ملاذ آمن لمناضل مطارد بسبب عشقه للحرية وإيمانه بأرضه وإنسانيته هذا إرهاب ترد عليه الولايات المتحدة بعنف لا مثيل له لتجعل المخالف عبرة لمن يعتبر،
أما القتل العمد، بل الاغتيال بقرار رسمي ممهور بأختام الرؤساء والقادة، فليس إرهاباً.
أن يحاول “عاملي” اقتلاع الاحتلال من أرضه فهذا إرهاب، أما أن يقوم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، الجبار بتدمير القرى ونسف البيوت وقتل الأطفال والنساء حماية لاحتلاله وقمعاً لإرادة التحرر، فهذا جهد مبارك يساعد على تظهير صورة إسرائيل كواحة للديموقراطية في الصحراء العربية،
الجلاد هو القاضي فكيف يستقيم ميزان العدالة؟
لعل اللبنانيين يدركون، الآن والآن فقط، لماذا سحبت إسرائيل الحشود التي دفعت بها إلى “الشريط المحتل”، وهيأتها لاجتياح جديد،
لقد كانت إذاً تحاول تغطية عملية الإرهاب النظام المحدود، في ضواحي بيروت الجنوبية، بعملية إرهاب نظامي واسع في جنوبي لبنان،
ولقد فجر الخطأ العمليتين فأبطلهما، حتى إشعار آخر،
ولم يكن أمام الحكومة اللبنانية غير أن تشكر الصديق الأعظم في واشنطن، إذ افترضت أنه هو الذي منع الاجتياح الجديد،
شكراً للخطأ ، الذي أوقف إرهاب قراقوش الصغير، وأسقط منه قراقوش الكبير،
وشكراً لمن كشفوا لنا السر، ولأغراض لا نعرفها، فقد أعفونا من عبء أن نظل مدينين لمن كان يتواطأ على قتلنا.

Exit mobile version