طلال سلمان

على الطريق الجزائر تطلق للصحافة حريتها والجنرال يعطلها في لبنان! الشاذلي بن جديد: ما بعد التمرد على الطائف

هزتني المفارقة وانا أتصفح الصحف الجزائرية، وهي حكومية أصلاً بتمويلها ومطابعها وورقها كما إن العاملين فيها موظفون يتقاضون رواتبهم من خزينة الدولة ويفترض أن يكونوا لسان حال الحاكم والحكومة، خصوصاً وإن رئيس الدولة – على الأقل – واحد من رجال ثورة المليون شهيد.
من عناوين الصفحة الأولى إلى بريد القراء، وفي مختلف الصفحات والزوايا، نقد شديد وقاس للحكم والحكومة. واندفاع مع “الشفافية” و”العلانية” في اتجاه “إعادة البناء” إلى أبعد مما وصل إليه الحكم السوفياتي الجديد بقيادة ميخائيل غورباتشوف.
… وأنا القادم من لبنان تسبقني أخبار تعطيل الصحف وكم أفواه الصحافيين في بلد الحريات وجنة الديموقراطية في الكون!
الشاذلي بن جديد، العسكري القديم، خلع ثوب الجندية وهجر لغة الأمر، بل وتخلى عما كان يمكن له أن يدعيه من حصانة بحكم انتمائه إلى صفوف الثورة وقتاله من أجل حرية بلاده وهويتها القومية.
… وفي لبنان يقفز “ضابط صغير” في ساعة ليل إلى “دار الحكم” فيدعي لنفسه شرعية بديلة عن الشرعية، وينصب نفسه قائداً لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين الشعب (كالنواب مثلاً)، و”يرفض” الاعتراف بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وبسائر المؤسسات الشرعية التي اعترف بها العالم كله وأيدها بغير تحفظ.
ولأنه خارج على الشرعية ومتمرد على دولتها، فقد تحصن خلف الغريزة الطائفية معطياً نفسه حصانة “رمز الطائفة” و”بطلها”، فارضاً على الناس الاعتراف به بقوة الأمر وإلا فالعصا لمن عصى.
في الجزائر يتقدمون في اتجاه الحرية، وترتفع الأصوات بالمراجعة النقدية لتجربة ثورية هزت العالم وتعلقت بها أفئدة العرب في مختلف ديارهم.
وفي لبنان يحاول هذا العسكري الحامل لكل تشوهات الميليشيات الطائفية وكل إفرازات عصر الهزيمة، أن يأخذنا إلى ليل القمع وخرس الخوف وكبت الحرية والتسليم بحكم الفرد… كل ذلك تحت لافتة تلك الكلمات والعبارات النبيلة التي أمضى “العونيون” كل عمرهم في القتال ضدها، مثل: الثورة، المقاومة، التحرير، إرادة التغيير وحفظ كرامة الإنسان.
وتستعيد الذاكرة، بشيء من التحفظ، ذلك الكاريكاتور الشهير الذي نشره المرحوم سعيد فريحة في الزميلة “الصياد” مع فجر الاستقلال، والذي يصور “مرتزقاً” سنغالياً يعمل في خدمة جيش الاحتلال الفرنسي يقود مواطناً لبنانياً بحربته وهو يصيح به
MOI CIVILISEZ VOUS!!
إن ميشال عون يكمل المهمة التحضيرية لذلك المرتزق الذي كان يريد تمدين اللبنانيين، وهو باسم تلك المهمة وجه حرابه إلى الصحافة والصحافيين!
لكن تاريخ الحريات، والصحافة في لبنان أهم منابرها، يحفظ أسماء الكثير من الطغاة الذين حاولوا كم الأفواه بالسجن أو بالتعطيل أو بالاعتداء الجسدي وصولاً إلى الاغتيال.
… ولقد بقيت الصحافة ولاقى الطغاة مصيرهم الطبيعي،
بقيت الصحافة في لبنان راية للحرية وبشارة بالغد الأفضل لمجموع الأمة، وبقيت بيروت عاصمة للكلمة في دنيا العرب ومنتدى فكرياً مفتوحاً على كل اجتهاد وكل رأي وكل فكرة خلاقة.
ولعل حكام العرب قد أدركوا، ولو متأخرين، أهمية دور الصحافة عموماً، وصحافة لبنان بشكل خاص، فأخذوا يتوسلونها طريقاً لتوضيح مواقفهم وتحسين صورتهم في عيون جمهورهم عبر المصارحة والمكاشفة وطرح المصاعب والمشكلات بغير تزوير أو تزييف أو تزويق، والأهم: بغير ادعاء العصمة والتمترس وراء حصانة شكلية لا تستر عورة ولا تغطي عيباً ولا توفر عذراً لمقصر.
في الجزائر التي تعيش حالة من “السيولة” تجعل جنباتها تضج بالحوار الجدي والساخن حول مختلف المسائل، بما فيها مسيرة الثورة وأهلية الذين حكموا باسمها على امتداد سبع وعشرين سنة، تسنى لي أن أشارك ببعض المناقشات الجانبية، وأن استمع إلى كثير من النقد والنقد الذاتي البناء.
فلقد اتسع وقت الرئيس الشاذلي بن جديد للقاء غير صحافي معه، كان أحد موضوعات الحديث فيه عن الجرح اللبناني وعن احتمالات العلاج في مرحلة ما بعد التمرد وتعثر اتفاق الطائف…
*قال الرئيس الجزائري بنبرته الهادئة:
-يخطئ من يظن إننا نفضنا يدنا وتخلينا عن مسؤوليتنا حيال لبنان وأهلنا فيه. إن لبنان قضية عربية ومسؤوليته قومية. وحتى لو لم تكن الجزائر عضواً في اللجنة الثلاثية لظللنا نحس بمسؤولية خاصة تجاه هذا البلد العربي ومحنته الدامية، فكيف ونحن مع أشقائنا في المغرب والسعودية انتدبنا أنفسنا وانتدبنا أخواننا لمعالجة هذه القضية القومية؟!
… لقد أعد وزراء خارجية اللجنة (الثلاثية) تقريرهم وضمنوه توصياتهم، والاتصال بين وبين الملك الحسن الثاني وخادم الحرمين الشريفين لا ينقطع، وبالتأكيد فلسوف نبادر إلى تحرك عربي يعزز الشرعية الوليدة في لبنان ويزخم مسيرتها في اتجاه بسط سلطتها على كل التراب الوطني، ويمكنها بالتالي من مواجهة حالة التمرد التي تهدد التصور العربي للحل.
وبالطبع فعلينا واجباتنا، وعلى الشرعية اللبنانية واجباتها التي لا يجوز لأحد غيرها أن يقررها وأن يباشرها فعلاً. ونحن مع قرار هذه الشرعية في مواجهة التمرد.
*وقال الرئيس الشاذلي بن جديد:
-لا بد أن نتلاقى مجدداً لنتشاور ولنكمل مهمتنا، لا بد أن نجد علاجاً للتمرد، وأن يستأنف الحل مسيرته، ولا أظن أن أياً من القادة العرب سيتهرب من مسؤوليته القومية إذا ما ارتؤي عقد قمة طارئة من أجل لبنان.
… إن الأزمة في لبنان سياسية بجوهرها، والتمرد شأن داخلي، بطبيعة الحال، ولكن آثاره السلبية تمس العرب جميعاًن ولا يجوز ترك هذه الحالة تتفاقم.
… إن العالم يشهد تحولات خطيرة، وهي تلقي بظلها الثقيل علينا في أقطارنا كافة، ويفترض أن تنبهنا إلى ضرورة تناول أمورنا بأيدينا وترتيب أحوالنا بأنفسنا. يفترض أن تحجم الخلافات التي كانت تفرق صفوفنا وتضعفنا، فالآتي أعظم.
*وقال الرئيس الشاذلي بن جديد:
-لسنا من القائلين بالحسم العسكري، ولا نظن أحداً في لبنان وخارجه يريد الحسم العسكري أو يرى فيه العلاج لمشكلة سياسية دقيقة كالتي تعيشونها.
لكن الشرعية هي القوة وهي مصدر القوة، ويجب أن تتعزز قدراتها المادية والعسكرية بحيث تغني قوتها وقدراتها عن اللجوء إلى القوة.
يجب أن تتوفر للشرعية ولحكمها الجديد الامكانات الضرورية، ونحن في الجزائر على استعداد لتقديم ما يطلب منا، وأنا واثق إن أشقاءنا العرب، في السعودية وفي المغرب كما في الأقطار الأخرى على أتم الاستعداد، حتى لو تأخرت مبادرتهم في انتظار أن تستكمل الشرعية إطاراتها وخطتها للعمل.
في الجزائر “طوفان” من الكلام، وأجهزة الاعلام – الحكومية – مفتوحة لكل صاحب رأي، وأساساً للمعارضين والمعترضين والقساة في نقدهم للنظام ورموزه جميعاً.
أما في لبنان فيتصدى “ضابط صغير” ليخوض حرباً أخرى خاسرة، يدفع فيها لبنان المزيد من رصيده وسمعته واستحقاقه لدوره العربي، بل ومن مبررات وجوده،
فبعد معركته ضد “الدولة” ها هو “الجنرال” يخوض حربه ضد النظام ذاته،
وفي الحالين فإن الجنرال يقاتل الدولة بسيفها وببزتها ويقاتل النظام بمؤسساته ذاتها،
ويبقى دور الشرعية وحكمها الجديد في حماية الدولة (وبزتها)، وحماية النظام الذي ولدها برعاية عربية (ملكية) وبدعم دولي شامل.
وهو دور حاسم، لا يعوضه أحد، ولا يغني عنه أحد، لا في الداخل ولا في االخارج، ينتظر قرار الشرعية وينتظر خطوتها الأولى.
ولعله ينتظر، قبل ذلك كله، مباشرتها الحكم… بكل ما لكلمة الحكم من معنى.
والصحافة سيف للشرعية، كونها سيفاً للوحدة وحلم الوطن، وحلم السلام المرتجى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزائر تحاور ذاتها بحثاً عن الغد… ورئيس حكومتها يرسم لوحة للاصلاح المطلوب

Exit mobile version