طلال سلمان

على الطريق الجبل بين الحرب والاقتتال!

عادت إسرائيل إلى قرع طبول الحرب، مرة أخرى، رامية حكاية المفاوضات، وبالتالي الانسحابات، خلف ظهرها، فارضة على واشنطن أن تحدد موقفاً مما يجري في سوريا، وليس في لبنان أو – استطراداً – في الضفة الغربية وقطاع غزة وصولاً على “الخيار الأردني” وموقعه في مبادرة ريغان.
وهكذا فقد تزايدت الحشود العسكرية عند خط المواجهة الجديد في قلب البقاع المحتل، واستأنف طيران العدو ظهوره في أجوائنا “مبشراً” بمزيد من أعمال التدمير والقتل الجماعي مستهدفاً خلق حالة من الذعر في أوساط الأهالي كتمهيد نفسي للجولة الجديدة في الصراع المفتوح.
ولم يعد السؤال الذي يطرحه الناس: هل تقع الحرب بين سوريا وإسرائيل؟ بل لعله قد بات يتركز على موعدها فحسب،
كذلك تناقصت الخشية من هزيمة ساحقة جديدة، ربما بتأثير الحديث الأميركي – الإسرائيلي المتواتر عن فعالية السلاح السوفياتي الجديد الذي توافر لسوريا، وربما ببقية حسن ظن في قدر ما من التضامن العربي، وقبل ذلك بالتمني وبالثقة في أن الجندي العربي (بله الإنسان العربي عموماً) لم يعد بعد فرصة جدية لحرب حقيقية ضد العدو الإسرائيلي، وإنه قادر على مواجهتها لو سمح له بذلك، كما أثبت فعلاً في بدايات حرب 1973، وفي أشكال المقاومة للاجتياح الإسرائيلي للبنان.
في ظل هذا كله يستمر الهم الداخلي ضاغطاً على صدور اللبنانيين، خصوصاً وإنهم يقدرون إن ما يجري في بعض المناطق، وفي الجبل على وجه التحديد، قد يكون مقدمة لهذه الحرب المحتملة، وإنه قد يفرض عليهم أن يدفعوا مقدماً ثمن تحسين الوضع القتالي لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
فالكل الآن يتحدث عن “جولة جديدة” في الجبل، والكل الآن يشم رائحة انفجار قريب سواء من التصريحات السياسية “الناعمة” أو من الخطب العنترية لبعض قياديي “القوات اللبنانية”، أو من الاستعراضات العسكرية في مناطق ظلت حتى الأمس خارج دائرة الصراع (جزين مثلاً) ومن أخبار الحشود المتزامنة مع دعوة أبناء الشوف وعاليه إلى الاندماج في “قوات لبنانية لا إسلامية ولا مسيحية ولا درزية” لمواجهة “الأقلية المخربة” التي لا تزيد على عشرة في المئة بتقدير الشيخ بيار الجميل.
وإذا كان الناس يستريبون في تصرفات الميليشيات ذات الطابع العسكري والقتالي، فإنهم يستغربون في حديث الشيخ بيار خلوه من أي ذكر للدولة، ودورها في هذا الموضوع الحساس كما في غيره يفترض أن يكون حاسماً. وكذلك فهي – وهي وحدها – المرجع والملاذ.
وإذا ما تجاوزنا حديث الشيخ بيار والباعث على استغرابه لوجدنا إن الناس يستريبون في ما يشهدون من تصرفات كونهم يستشفون فيها وعبرها عودة لـ “الشارونيين” إلى مواقع التأثير وربما إلى مركز القرار في قيادة بعض الفرق أو الفصائل أو الأجنحة المحسوبة على “القوات اللبنانية”،
ويربط الناس بين عودة هؤلاء “الشارونيين” وبين التهديد الإسرائيلي المتكرر بانسحاب جزئي من مواقع قوات الاحتلال في الجبل، ويقدرون إن الإسرائيليين رمموا علاقاتهم مع حلفائهم القدامى هؤلاء وبدأوا يمنونهم بتسليمهم الشوف وعاليه بحجة “منع السوريين والفلسطينيين” من العودة إلى حيث كانوا وإلى حيث يمكنهم إلحاق الأذى بعسكر المحتل.
على إن الناس يفهمون هذا التصرف حركة إسرائيلية مفضوحة لمنع الدولة من العودة إلى الجبل واستمرار محاصرتها في بيروت الكبرى، واعتماد هذه القاعدة في أي انسحاب آخر قد يفرض عليها من أي منطقة أخرى بضغط من واشنطن نتيجة لضغط دولي (وعربي) على البيت الأبيض أو النتيجة لما استجد أو قد يستجد من تطورات في المنطقة…
وهكذا ينتهي الأمر بأن يتسلم “الشارونيون” الجبل، وسعد حداد الجنوب أو بعضه، وما يسمى “الحرس الوطني” ما تبقى من المناطق المحتلة، ولا يبقى للدولة غير حيث هي الآن…
ومع اختفاء أو اختباء إسرائيل خلف واجهات محلية، وكلها يحمل شهادات ممهورة في “اللبنانية الصافية” يفرض على الدولة أن تطوي صفحة المفاوضات مع المحتل الإسرائيلي لتلتفت إلى سوريا ومنظمة التحرير مطالبة بسحب قواتهما ، بينما هي تعرف سلفاً إن هذا المطلب مستحيل وإنه تعجيز واستدراج الآخرين إلى عداء غير مبرر وإفساد لعلاقات أخوة تشكل – في مطلق الحالات – عنصر قوة للبنان في الأحوال الطبيعية.
من هنا المطالبة الملحة للدولة بالمبادرة في العودة إلى الجبل،
وأول شروط عودتها منع الانفجار المرتقب، والقريب في ما تكشفه الاستعدادات وكذلك تحذيرات الخائفين من نتائجه ليس فقط على أرواح الأهالي وأرزاقهم، بل قبل ذلك على علاقة هؤلاء بدولتهم وربما بلبنان كله كما عرفناه حتى اليوم.
لقد حاولت إسرائيل مع بداية المفاوضات أن تقدم بعض مناطق الجبل “رشوة” للدولة (عبر التلويح بالانسحاب الجزئي) لكي تبقى من ثم إلى الأبد في ما تبقى من مناطق محتلة تشمل الجنوب كله وبعض البقاع،
ومن أسف إن ما رفضته الدولة عبر موقف وطني سليم يقدم الآن لأطراف صورت نفسها دائماً وكأنها “أم” الدولة وراعيتها وحاميها، فتهم بقبوله وهي تدرك سلفاً إن هذا القبول قد يعني نهاية الدولة ولبنان.

Exit mobile version