صارت المفاوضات العربية – الإسرائيلية مجرد ثرثرة بالإنكليزية في “شقة” معارة من طرف وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن، لا تعني أحداً غير أولئك المكلفين بإدامتها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
النجاح متعذر، وهو في أي حال ليس قرار المفاوضين (المتقاعدين)، والفشل غير مقبول، والاستمرار في إعادة أو استعادة الأحاديث المملة يلبي حاجة ذاتية عند “الراعي” وحاجة موضوعية عند الأطراف.
والمتفاوضون نوعان: راغب لا يقدر، وقادر لا يرغب،
أما الراعي الأميركي فقوي جداً بحيث لا يستطيع أن يفرض رغبته، فتظل القدرة دون مستوى القرار، وفي غياب القرار تتحول الرغبة إلى تمن كسيح.
في هذه الأثناء يلتفت كل من أطراف الصراع إلى وضعه الداخلي، البعض (العربي) ليحميه من التصدع والتآكل نتيجة الجمود، والبعض الآخر (العدو الإسرائيلي) ليحميه من التفتت والانهيارات بفعل التداعيات الناجمة عن الحركة وارتطامها بواقع التكوين الاجتماعي للكيان الصناعي وعنف التحدي المتبادل بين “الوطني” و”المستوطن” وصولاً إلى “الفلسطيني” و”الإسرائيلي”، بل “العربي” و”الصهيوني”، و”الحربي” و”المسالم”.
في هذا السياق يمكن قراءة التفجيرات المتوالية في بعض أنحاء لبنان، مع التركيز على منطقة معينة وطائفة معينة، من داخل الجهد الإسرائيلي لتصدير المشكلة إلى خارج “الكيان”، ولتعميم الاضطراب وعدم الاستقرار، بحيث تبدو المشكلة السياسية – الاجتماعية – الأمنية – الإسرائيلية أحد وجوه الاضطراب العام السائد في “الشرق الأوسط” نتيجة للتحولات التي استولدها تطور الصراع من حرب بالسلاح إلى مفاوضات من أجل السلام.
إسرائيل تعيش ساعة الزلزال.
وبرغم كل “العون” الذي قدمته القيادة الفلسطينية الرسمية، مدعومة بالعديد من الأنظمة العربية، فإن حقيقة الصراع أصلب بكثير من أن يلغيه أو يضعفه اتفاق أوسلو (17 أيار الفلسطيني)، وملحقه الأمني في القاهرة الذي حوّل منظمة التحرير إلى ما يشبه “جيش لحد” الفلسطيني.
إذاً، لاى بد أن يُشغل الخصم بنفسه، فتكون التفجيرات في لبنان إرباكاً لسوريا ذاتها وتغطية لمفاعيل العلاقة الجديدة الناشئة بين الإسرائيلي والقيادة الفلسطينية والتي عجزت عن أن تكون “تحالفاً” إذ لا سبيل إلى التحالف بين الصفر والمليار ، وقصرت عن أن تكون حلاً لمشكلة الفلسطيني في حين أنها جسمت المشكلة المصيرية للإسرائيلي، أو هي تهدد بأن تكون صاعق الانفجار.
ولتسليط الضوء أكثر فأكثر على الجانب “الخارجي” للمشكلة تتوالى الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، بينما التفجرات في الضفة وغزة والقدس وأريحا (حتى أريحا!)، ويترك إسحق رابين أزمته الحكومية مفتوحة ويجيء إلى بعض قرى جبل عامل المحتلة ليطمئن على مستقبل عملائه فيها، وليلوح بقدرته على تحويل الاشتباك إلى حرب من طرف واحد، ليغطي مسؤوليته في إفشال المفاوضات التي ألح في طلبها حليفه الأميركي.
كل يذهب إلى حيث لا حل، لأنه أعجز من أن يواجه مشكلته مباشرة،
رابين يجيء إلى الجنوب حيث بعض نتائج المشكلة أما أسبابها فهي عند باب مكتبه وفي قلب بيته، ثم في واشنطن التي يذهب إليها ليلغيها كطرف ثالث.
وعرفات يذهب إلى “العمرة” فيحظى بها ملكية، لكن ذلك لا يحل له مشكلته في الضفة والقطاع، ناهيك عن سائر الفلسطينيين.
هذا في حين يهرب الملك فهد من “اقتناص” فرصة وجود الملك حسين على بعد أمتار منه، في مكة المكرمة لتأدية مناسك العمرة، فلا يذهب إليه ولا يطلبه للقاء يطوي صفحة “عاصفة الصحراء”.
لكأنه كان يعلن أنه إنما يستقبل فقط من وقع مع العدو الإسرائيلي، وليس من فاوض ولم يوقع،
لكأنه يريد إظهار الاستقبال الملكي وكأنه مكافأة على التوقيع وليس توكيداً للتضامن وتعزيز الصمود العربي.
وها هو رئيس حكومة لبنان يطير اليوم إلى “المملكة”، وأيضاً بحجة أداء مناسك العمرة، والمرجح أن يستقبله الملك (وقد اعتاد أن يستقبله كلما قصد المملكة في زيارة خاصة..). بغير أن يكون هذا الاستقبال تضامناً مع اللبنانيين سواء في مواجهة التفجيرات الإسرائيلية في الداخل أو الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.
.. ولننس حكاية المساعدات وإعادة البناء والنهوض الاقتصادي، فتلك أمور متروكة لما بعد التوقيع.
وفي انتظار أن تفتح الطريق إلى التوقيع، يبقى إسحق رابين في الجنوب “متفقداً” ضحاياه جميعاً، الأهالي عموماً وهم رهائنه، ثم أولئك الذين توهموا أنه مصدر الأمان فإذا بالعلاقة معه أقصر الطرق إلى الموت.. المجاني!
ويبقى أولئك المفاوضون (المتقاعدون) يثرثرون في واشنطن المشغولة الآن بالمعركة الأخرى الجارية لإضعاف الرئيس القوي بحيث يصير رهينة جديدة لدى الإسرائيلي، مما يعطل “عملية السلام” تماماً.
والمنطق واضح: الكل مشغول بالداخل عن الخارج.
والمفاوضات تستطيع أن تنتظر ، ريثما يتم إعداد الداخل وإلا بقيت معلقة في هواء تلك الشقة بوزارة الخارجية الأميركية في واشنطن.
… اللهم ألا “فجرها” حدثاً كبيراً ينتجه الداخل، أي داخل، ويصدره إلى الخارج، كل الخارج.