طلال سلمان

على الطريق التهجير عكس الزمان والمكان!

على حدود الثلج والخواء والخيبة عنوان فلسطين الجديد،
تتناثر الخيم في الوعر كرقع في ثوب الهزيمة العربية متعددة الألوان والأحجام والأشكال والتسميات.
ويتقاطر الرجال مع وصول أية سيارة: إنهم في البال إذن، لم يمتصهم النسيان ولم تنجح إسرائيل في إرسالهم إلى العدم: “شرفتمونا، يا أهلاً وسهلاً، تفضلوا ، أخوكم في الله… يرحب بكم. تفضلوا إلى ضيافة الإرهابيين! متى كان أهل العلم والثقافة، الأطباء والمهندسون ورجال الدين وخطباء المسجد الأقصى من الإرهابيين؟! تفضلوا، مع الاعتذار عن إننا نستقبلكم في بلادكم. لكم ازداد تقديرنا وإكبارنا لبلدكم المضياف، الشقيق الصادق والودود هذا، إن مطلبنا أن ترفضونا هنا لعل ذلك يعجل في عودتنا إلى بلادنا… والله سبحانه وتعالى قادر على أن ييسر لنا أن نستضيفكم إن شاء الله في بلادكم، هناك، في غزة ورفح وسائر فلسطين”.
اللون الأبيض فضاح يكشف ما حوله ولا يقبل التزوير. القرية قرية، وشجرة الزيتون زيتونة، والخيمة خيمة، والمبعد مبعد. لا هو عابر طريق، ولا هو تائه أضاع طريقه بين الوهاد والهضاب وهذا المنخفض الغائر عميقاً، كالخور، بين جبلين.
اللون الأبيض فضاح، تسقط الألقاب عند أقدام الثلج وتذوب حتى الاندثار. تشحب التسميات الحركية ولا تبقى إلا كلمة فلسطين. يخاطبونك باسم التنظيم، فلا تسمع إلا نبرة فلسطين ولهاثها. تمحي ملامح الأشخاص ولا يصمد إلا الاسم والعنوان والرسالة والقضية: فلسطين.
لا ثلج في غزة ورفح وخان يونس والمخيمات المحيطة. فقط الدم والرمل وموج البحر وشيء من الشذا: عطر زهر الليمون… والأيام أرقام مضرجة بالأحمر القاني للتمييز: ستة شهداء، ألف ومائتا معتقل، أربعماية وخمسة عشر مبعداً، وبضع عشرات من الموقوفين قيد المحاكمة أمام العمياء الإسرائيلية التي اسمها المحكمة العليا.
تقودك الطريق المرقعة والملتوية، بل المتسللة عبر الهضاب والوهاد والسهوب في اتجاه فلسطين.
الاحتلال “عكس السير”. عكس الزمان خلافاً للطبيعة والجغرافيا
كانت هذه طريقك، أيام الثلج وانغلاق طريق ضهر البيدر إلى بيروت عبر حدود الجنوب مع فلسطين. كلاهما اليوم في الأسر، وطريق ضهر البيدر ما تزال تقفله أول رشة ثلجز
تمدد الاحتلال من بعض فلسطين إلى كامل مساحتها ثم مدّ أذرعته الأخطبوطية خارج فلسطين فاعتقل معظم الجنوب ولما يتمكن لبنان – الحضارة والتقدم والعصرية من حل معضلة الثلج في ضهر البيدر.
والطريق الشاحبة الاسفلت تمتد عبر اأرض الفقيرة، الجرداء إلا من بعض شجيرات التي والزيتون وقليل من كروم العنب انتزعها الفلاح العنيد المقدودة إرادته من جبل الشيخ، من قلب الصخر والوعر وشح الطبيعة.
“والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين”…
هذا هو الزيتون. هذا هو التين، هذا هو الجبل… جبل الشيخ المكللة هامته بالثلج يحني جبينه بجلال وكأنه يصلي… فأين البلد الأمين، أين من يحميه لأهله ويحمي أهله فيه؟!
في وهدة بين هضبتين من تلك الهضاب يتناثر عنوان فلسطين الجديدة.
… والهضاب تكمل تدرجها من الشرق إلى الجنوب كأنها طابور شرف أو حرس حدود لموكب جبل الشيخ، تتناثر ساعية في ركابه مستعصية، مثله، على الحدود الرسمية للدول. إنه الاصل، والحد طارئ فليبحث عنه من أقامه. هو لبر الشام ينتمي، إلى الميمنة “جبل لبنان”، وإلى الميسرة سهول حوران وأمامه الساحل الفلسطينيز
لكنها الآن تبدو جميعاً وكأنها امتداد لجذور هؤلاء المبعدين تدل عليهم: من فلسطين هم: منها جاءوا، وفيها هم الآن، لم ينقطعوا عنها ولن تنقطع عنهم.
لم يجيئوا بفلسطين إلى لبنان، ولكنهم سيأخذون لبنان إلى فلسطين.
ليس الحديث ما تريد، على أهمية أن تسمع معاني جديدة، أفكاراً جديدة، استخلاصات جديدة. إنما تطلب ما هو أبعد وأعمق. تريد أن تتحسس بأصابع يديك، برموش عينيك، بمشاعرك المستفزة تلك الروح التي واجهوا بها هناك، والتي لا بد رافقتهم إلى هنا، والتي يحتاجها الكل هنا وهناك وهنالك وفي أربع رياح الأرض العربية.
إنما جئت تقصد فلسطين: “يا ريحة البلاد. يا ريحة الأرض. يا ريحة الأهل. يا رائحة الجنة”، هلل وهو يحتضنهم بعض من أبعد قلبهم، كأنما ليتشمم ما علق عليهم من روح فلسطين، من عطرها، من ترابها المضمخ بنجيع الشهادة وأسهاء الشهداء.
تستوقفك الخطابية في الحديث… وتكاد تنفر من “الاحتراف”. تريد أكثر من خطبة الجمعة. ومع وعيك بمكانة القدريات في اللاوعي العربي والإسلامي فأنت تبحث عن الوعي خارج النطاق القدري.
تتهاطل كلمات مشبعة بالتشكي والألم. الشكوى أعظم وجوداً من الخيبة. كأنما صارت الخيبة هي القاعدة، فلم يعودوا يتوقعون شيئاً من خارجها. والله في التقديم ومتن التحليل وفي الختام. الله، الله، الله، الله. قل لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم. سنعود بإذن الله، لنا الله، لا يقبل الله بالظلم، الله على الظالم.. للمظلوم الله، سيرفض العالم هذا الظلم الإسرائيلي، إن شاء الله.
يتناوبون على الكلام. يبدأ واحدهم بالتعريف عن نفسه: أخوكم في الله فلان.
يعطيك كبيرهم لائحة بالمراتب العلمية لبعض المبعدين.
18 أستاذ جامعة يحملون درجة الدكتوراة،
10 أطباء، 14 مهندساً، محاميان وصيدلي واحد، و108 من العلماء والخطباء في المساجد، والجامعيون (ما دون البكالوريوس) 158، و4 أصحاب مهن طبية مساعدة،
أما المتقدمون في السن فعددهم 39، وعدد المرضى والجرحى يصل إلى 50،
تلمع العيون بالإيمان من خلف زجاج النظارات. وتضيع عيناك في غابة من اللحى، أقلها أبيض، ومعظمها سوداء أو كستنائية الشعر. والمتحدث طبيب من خريجي الجامعات الأميركية، لكن المعاني القرآنية حاصرت اللغة الإنكليزية في زاوية الاهتمام المهني.
الغربة تؤدب النفس واللغة. تختفي الخصومة، ولو مؤقتاً. لا ذكر لمنظمة التحرير. لا مجال لاستعادة الخلاف الداخلي. المشكلة الآن مع العدو. الكلام كله عن العدو. لكن العدو يتسيس عبر الكلام فلا يظل إسرائيل بكليتها، إنما يتعرج وفقاً للمؤسسات والتكتيك. التركيز على إسحق رابين. فليكطن هو الرمز السياسي للعداء الوطني والقومي والديني.
-لست أخي إن قبلتني في أرضك – أرضي. إن قبلتني أخرجتني من أرضي – أرضك. إذا حميت معي أرضي فإنما تحمي أرضك.
يتلعثم الكلام. يصير ضرورياً اختيار الألفاظ: إن أنت رحبت كنت كمن يتواطأ مع العدو. وإن حاولت أن تكون محايداً، ولن تنجح، أحسست بما يشبه ارتكاب الاثم وتفصد جبينك عرقاً!
أين هي اللغة؟!
ما قيمة الكلام والأمة مشلوحة في العراء على حدود الثلج؟!
الأرض باقية. والناس باقون. جبل الشيخ باق. والنويهر الذي تسميه العامة “أبو جاج”، ويسميه الفصحاء “الفاتر” يخرجر وهو يواصل جريه حراً على امتداد السفح مخترقاً بدوره الحدود فيصل إلى فلسطين، بينما أهلها يطردون منها وتبقى فيهم.
… وهم يسافرون معه.
على حدود الثلج فلسطين،
وفي قلب الثلج الآخرون.
“والتين والزيتون”… ينتظرون أن يكتمل القسم بالإنجاز!
.. ورابين يعطي دروساً في “الفقه الإسلامي” ويحدد من هو المسلم، وينفي عن عاشق أرضه “تهمة” الإيمان، ثم ينصرف إلى تأديب لبنان: عليك أن تقبلهم وإلا… ثم يختم بأن كل شيء هادئ على جبهة المفاوضات التي لن تتأثر قيد أنملة!
وتستذكر أنهم في كلامهم يضعون الأرض والعروبة في قلب الله، فالكلمة المقدسة تتسع لكل ما هو مقدس، ولكل ما يستحق أن نعيش من أجله ولو على حدود الثلج.

Exit mobile version