طلال سلمان

على الطريق التلاقي جنوباً…

أضاع الحكم فرصته الأولى، وكاد يضيع نفسه والبلد قبل سنة، على طريق الجنوب (والبقاع الغربي، وإقليم الخروب وصولاً إلى الباروك)…
وبرغم التسهيلات والمساعدات المؤثرة التي قدمت وتقدم للحكم في ضوء تراجعه عن خطيئته المميتة، فإنه لن يستعيد فرصته الكاملة ولن يستعيد سويته إلا بمقدار ما يتقدم على طريق الجنوب وهدفه إجلاء المحتل الإسرائيلي…
فاستعادة المحتل من الأرض تعيد إلى الحكم توازنه الوطني وشرعيته الكاملة، إضافة إلى كونها تعيد إلى البلاد سيادتها وكرامتها ووحدة أبنائها.
و”الصيغة” المبتغاة لتجديد النظام اللبناني وتطويره، ولو في أضيق نطاق، تولد عملياً عبر الاتفاق على تحرير المحتل من أرضنا، كهدف لا يقدم عليه أي هدف آخر، وكخطة عمل لا بد أن تعكس بذاتها الخطوط العريضة لتوجهات الحكم والحكومة في مختلف الميادين التي طالتها المناقشات في جنيف وفي لوزان ومعهما دمشق الأولى ودمشق الثانية.
ويفترض أن نفهم من امتداح أعضاء الحكومة للبيان الوزاري إنه يشكل “مسودة” الصيغة العتيدة، بالهدف المقدس فيها وخطة العمل التنفيذية.
لكن تبقى بعض الأسئلة والتساؤلات، وبينها ما هو ساذج، في انتظار أجوبة غير ساذجة عليها، ومنها:
*لماذا لا يبذل الحكم، ومعه الحكومة جهداً أكثر جدية في محاولة فتح طريق الجنوب الطبيعية، أي تلك الممتدة على الساحل بين الدامور ومدخل صيدا، حيث تتقاسم “السلطة” مجموعة من القوى المسلحة بعضها تابع للجيش اللبناني الرسمي الذي يتولى قيادته حتى هذه الساعة العماد إبراهيم طنوس، وبعضها الآخر تابع لـ “القوات اللبنانية” بقيادتها الكتائبية التي يفترض إنها ممثلة في الحكم بأعلى مستوياتها العائلية و”الصديقة”؟!
إن حاجز السعديات، مثلاً بيد جنود نظاميين، وثمة رفاق لهم في معمل كهرباء الجية، والطائرات العمودية التابعة للجيش اللبناني تغط هناك وتحمل المرضي عنهم من الركاب الحسني السلوك والسيرة والهندام، وفيهم موظفون كبار ومكلفون بمهام خاصة ومن لهم مآرب أخرى.
فإذا كان مثل هذا الأمر ممكناً “للخاصة” فلماذا لا يبذل ما يكفي من الجهد ليصبح ممكناً للعامة، من الموظفين أو المواطنين على حد سواء؟!
وما هو دور الجيش، على وجه الدقة، هناك وهل يقوم بمهمة محددة وما هي طبيعتها وممن يتلقى أوامره، ناهيك بالسلاح والذخيرة والشؤون اللوجستية؟!
*يتصل بالسؤال الأول سؤال أكثر سذاجة مفاده: لماذا لا يقرر الحكم، ممثلاً بمجلس الوزراء مجتمعاً عقد جلسة لهذا المجلس في صيدا، مثلاً، التي تكرم “لحد الجنوب” فوهبها للدولة عبر موظف أسعدته المناسبة فضم العميد المنشق وأشبعه لثماً وتقبيلاً علامة الشكر والامتنان على حسن صنيعه “الوطني”؟!
قد يقال، مع ابتسامة سخرية: ما هذا الهذر؟! إن إسرائيل لا يمكن أن تسمح بمثل هذه التظاهرة السياسية، وقد تتدخل لمنعها أما مباشرة وأما بواسطة “جماعتها” على الطريق الساحلي أو في قلب صيدا أو ممن في الجوار!!
والجواب يتضمن “الأسباب الموجبة”.
فإذا تدخلت إسرائيل مباشرة بالمنع فهذه فضيحة سياسية مجلجلة للعدو، على المستوى الدولي.. إن الأرض اللبنانية بعد، والجيش الإسرائيلي قوة احتلال، وكل تعهدات حكومة العدو وأحاديث مسؤوليه عن الانسحاب وعن انعدام المطامع هراء بهراء.
أما أن تتدخل بالواسطة فلا نظن أن منتسباً إلى “القوات” أو إلى “جيش لحد” سيطلق النار على بيار الجميل أو على كميل شمعون أو على رئيس الجمهورية وكل حملة السلاح هناك يتبارون في إعلان ولائهم للشرعية والسيادة والاستقلال والدولة ووحدة لبنان!
أو هكذا يريدنا الشيخ بيار وكميل شمعون ومعهما فادي أفرام أن نصدق،
فلماذا لا نرمي الأزمة على إسرائيل بدلاً أن نظل أسراها، ولماذا لا نمتحن ولاء هؤلاء الذين يزايدون على خلق الله في “اللبنانية” و”التحريرية” وهم في أحضان الميجر الإسرائيلي؟!
*وسؤال ثالث: لماذا لا يدعو الحكم ومعه الحكومة، طالما إنها تتمتع بمثل هذه القاعدة التمثيلية العريضة، إلى مسيرة سلمية في اتجاه الجنوب وبالتحديد يوم 4 حزيران وفي الذكرى الثانية للاجتياح لها دلالة رمزية عظيمة، ولها دلالة عملية جليلة… إننا نحن أهلكم، إننا نسمعكم، إننا معكم، إننا إليكم قادمون برغم المصاعب والأهوال وحراب القهر الإسرائيلي…
إن التوجه نحو الجنوب هو توجه نحو الصح، وبداية خروج من بحر الغلط الذي يتحول يوماً بعد يوم إلى مستنقع طائفي آسن يطلق ريح سموم لن تبقي أحداً ولا شيئاً على قدر من السلامة.
التوجه نحو الجنوب هو توجه نحو “القضية”، نحو مشروع الوطن، نحو الانتماء الحقيقي للبلاد، وبالتالي فهو تقدم هائل نحو صيغة تصلح أساساً لحل وطني يخرج بنا من هذا المأزق الذي ستظل طبيعته وطنية مهما حاول البعض تزويرها وتقديم حلول طائفية ملفقة له، تزيد من خطورته وأذاه وتأثيره المدمر على مستقبل أجيالنا الآتية:
والتوجه نحو الجنوب هو توجه نحو الحياة والغد الأفضل،
تصوروا موكباً مهيباً معززاً بالإيمان بالحرية وحق الإنسان في وطنه يتوجه نحو أشقائنا المحاصرين والمعزولين (مثلنا)، المقهورين (مثلنا)، المخربة ديارهم (مثلنا) المفتقدين من يتولى شؤونهم والمسؤولية عنهم (مثلنا).
تصوروا، مجرد تصور، فعل مثل هذا الموكب عليهم وعلينا وعلى العدو؟!
أهي دعوة إلى الحلم؟!
من قال إن تحرير الأوطان أقل بهاء من الحلم؟
لكن الطريق الساحلي حتى صيدا ستكون أجمل حتى من الحلم: البحر عن يمينك يرشك بالرذاذ المالح، يلسعك كأي مطهر للجروح، ورفوف النورس تتقافز وتفرد أجنحتها البيض فرحة بأنها لمحت أنسياً بعد غياب طويل، وإلى يسارك مروج من شقائق النعمان ودويك الجبل والخويتمة والأقحوان، وبيوت تطل برؤوسها القرميدية الحمراء عبر الخضرة الغامضة لأشجار البرتقال والليمون والنارنج والاكيدنيا.
ونوار.. وشميم زهر الليمون، ورائحة، الأرض، وطيف حبيبة أنحلها غياب الحبيب وراء ليل الحرب، والعنبر، بأزراره الصفراء القطنية تنبثق من قلب الخضرة كابتسامات سريعة تغمز بالموعد وتعد به أكثر مما تعطيه ولكنها تمنحك خدر النشوة باحتماله.
… واللقاء المرتجى والمنشود، بين الحكم والشعب، بين الحكومة والحكومة، بين الدولة والأرض، بين الناس والناس، يكون على طريق الجنوب،
ولمثل هذا اليوم المجيد تهون التضحية بكثير من سطور البيان الوزاري والمواقع المنيعة على خطوط التماس المفسخة الكيان إلى أرخبيلات من المستنقعات الطائفية!
وللمناسبة: لماذا وحتام تبقى خطوط التماس،
ولماذا لا ينسحب الجيش، على وجه التحديد، منها طالما إننا جميعاً نعرف إن لا أحد يملك القوة الكافية لاقتحام “كانتون” الطرف الآخر واجتياحه؟!
والمعابر المقفلة التي تعرقل التوجه إلى الجنوب هي هذه القائمة في قلب بيروت، فلنبدأ برفعها،
ورفعها – للمناسبة أيضاً – أول شرط من شروط أن يصبح “مجلس العشرة” حكومة وحكماً.

Exit mobile version