طلال سلمان

على الطريق “التقليد” الانقلابي

من الصعب استباق الأمور في الصراع الدائر بين الشرعية اللبنانية والعماد ميشال عونز
ولكن دخول قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع على خط هذا الصراع بطريقة ملتبسة فور تعيين قائد جديد للجيش اللبناني هو العماد إميل لحود، يجعل الوضع الداخلي في المنطقة الشرقية مركز الاهتمام السياسي.. على الأقل بعدما بدا أن رئيس الجمهورية الياس الهراوي، قد أعطى مهلة سياسية جديدة لحل “سلمي” لمعضلة تمرد العماد عون.
إلا أن المثير مع تبلور التنافس البادئ علناً مجدداً بين قوات العماد عون و”القوات اللبنانية” بقيادة جعجع، ومع تحول هذا التنافس إلى الإطار الوحيد المتاح حالياً ضمن خصوصية المنطقة الشرقية لمعالجة معضلة عون.. هو الرؤية الخلفية لكل من “القطبين” المسلحين المارونيين.
فمن هذه الزاوية “المارونية” يمثل الصراع بين العماد و”الحكيم” صراعاً بين خياري التقسيم والفدرالية!.
وقد يعترض البعض على هذا الرسم المبكر للخيارات في ظل وضع مفتوح على مفاجأت واحتمالات عديدة.
لقد رمى الدكتور جعجع الكرة منذ عودته إلى الكلام في أكثر من اتجاه، وإن كان ينبغي الاعتراف بأنه “اعترف” بشرعية الرئيس الهراوي، ووسائل الأعلام التي يؤثر عليها، تتعامل مسبقاً على أساس وجود رئيس جمهورية جديد.. بعد انتخاب الرئيس رينيه معوض ثم بعد انتخاب الرئيس الهراوي.
لكن الموقف الأكثر وضوحاً الذي طرحه جعجع، حتى لو كان على قاعدة الاستياء الضمني البالغ من “سطو” العماد عون على شعارات “القوات”، هو تركيزه على الشخصية السياسية الخاصة للشرقية.
كأنما الدكتور جعجع وهو يدخل متأنياً ضد العماد عون يرمي مسبقاً شرطه للانحراط في مشروع الوحدة اللبنانية، على قاعدة وثيقة الطائف، أو الأصح على قاعدة قراءته لوثيقة الطائف. هذا الشرط هو قيام لبنان في ظل استمرار الوضع الخاص لـ “الكانتون” الشرقي.
بكلام آخر يقول قائد “القوات” أو يريد أن يقول: نقف مع وحدة لبنان الفدرالية ضد التقسيم الذي يتولاه العماد عون بعدما أعلن دولته الخاصة منذ “حل” المجلس النيابي، وأكد على “الزيح” الذي يفصل بين دولته (المنطقة الشرقية) والمناطق الأخرى.
تطرح هذه الصورة ظاهرة هامة في الحياة السياسية اللبنانية وفي الوسط المسيحي بصورة خاصة خلال الحرب الأهلية. وهي ظاهرة انتقال قادة الحرب من مشروع بكامله إلى مشروع آخر نقيض حسب تبدل مصالحهم السياسية.
فالشيخ بشير انطلق عام 1977 في حربه ضد القوات السورية التي كانت قد دخلت إلى لبنان قبل أشهر قليلة بإلحاح من والده بيار والرئيس الأسبق كميل شمعون وبطلب رسمي من رئيس الجمهورية آنذاك فرنجية.
كان الشيخ بشير الجميل قد أعلن في تلك الأيام في العام 1977 إنه قد “دفن صيغة 43 ووضع حارساً على قبرها” مستنداً إلى قرارات خلوة “سيدة البير” التي كانت قد دعت إلى التعددية في ظل نظام فدرالي.
مرت الأيام ولاح منصب رئاسة الجمهورية أمام الشيخ الطموح، فإذا به يدفن المشروع الفدرالي ويبدأ بطرح شعار لبنان 10452 كلم غير قابل بأي انتقاص منه، وليعد في الأيام الـ 17 التي أمضاها كرئيس منتخب بحكومة مركزية قوية لم يسبق لأي رئيس أن تحدث عن مركزيتها بهذا التصميم!!
العماد ميشال عون نفسه عندما كان يأمل بالوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية كان يخوض حربه الصامتة في العام 1988 ثم المعلنة في أوائل عام 1989 مع “القوات اللبنانية” تحت شعار أن حربه هي حرب “الدولة ضد الدويلة” أي الدولة الموحدة ضد الدويلة التقسيمية التي كان يتهم “القوات” بالعمل لها.
وعندما تبدلت مصالحه بعد يأسه من الوصول إلى الرئاسة الأولى، بلغ به الأمر، كما هو الآن، إنه أصبح أول ماروني يتجرأ على إعلان دويلة التقسيم ويدافع عنها علناً ويتوسل تدعيمها بتيار شعبي!
يقول البعض أن هذا التقليد في انقلاب المشاريع مع انقلاب المصالح “أسسه” المرحوم الرئيس كميل شمعون الذي انتقل من “فتى العروبة الأغر” في الأربعينات وبداية الخمسينات إلى رمز “التعصب المسيحي” بعد سقوطه من الرئاسة عام 1958.
لكن “الأب” شمعون لم يصل، بل لم يتجرأ على الوصول إلى ما بلغه “الابن” ميشال عون، فكميل شمعون رضخ في النتيجة لمجرى الشرعية الدستورية وسلم منصبه إلى الرئيس الجديد آنذاك فؤاد شهاب، ونزل إلى الشارع ليغذي على مدى سنوات “غرائز” الجمهور المسيحي ضمن لعبة المعارضة.. التي تحولت إلى مشروع حرب أهلية مع تأسيس الحلف الثلاثي عام 1968.
أما العماد عون فقد كسر كل اعتبار، مما يجعل الترحم واجباً على كميل شمعون!
خسر المعركة سياسياً، أي معركة الوصول إلى الرئاسة الأولى، فرفض تسليم الأمانة التي أعطيت له أصلاً بطريقة غير انتخابية، وعلى يد أحد أسوأ رؤساء لبنان في الذاكرة الإسلامية والمسيحية على السواء.. أي أمين الجميل.
العماد عون هو إذن الدرجة الذروة في هذا “التقليد” الانقلابي الذي مارسه بعض زعماء الموارنة.
صحيح أن هناك تشابهاً بين هؤلاء الزعماء وبعض الزعماء الآخرين لدى المسلمين، لكن الفارق أن انقلابية هؤلاء في “المنطقة الشرقية” تهدد مصير الدولة برمته بسبب الأهمية المركزية لموقع رئاسة الجمهورية.
فإلى أين سيصل الفصل الجديد من هذا “التقليد”؟!
حمى الله لبنان.

Exit mobile version