طلال سلمان

على الطريق التفاوض… على المفاوضات!

بعد سنة ونصف من “مؤتمر مدريد” الذي دشن مرحلة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي عنوانها وهدفها الوصول إلى “تسوية سلمية” عبر المفاوضات المباشرة تحت الرعاية الأميركية (والروسية؟!)، يفرض على العرب التفاوض مجدداً حول هذه المفاوضات
لكأن المفاوضات بحد ذاتها هي الهدف،
ألم تقل واشنطن بلهجة تتراوح بين التحذير وبين الإنذار “إنها فرصة تاريخية قد لا تعوض، ومن الخطأ التفريط بها”؟!
على أن ما يفرض إعادة التفاوض على المفاوضات هو ما طرأ على ميزان القوى المكسور أصلاً، مما أضاف إلى قوة الطرف الإسرائيلي شيئاً من انحياز الراعي الأميركي، وزاد من ضعف الطرف العربي إذ جعله يواجه الإدارة الأميركية الجديدة التي تغطي الإسرائيلي باقترابها من منطقه وبحمايتها “الأمر الواقع” الجديد الذي فرضه بطرده الأربعمائة وخمسة عشر فلسطينياً من أرضهم زارعاً بذلك ألغاماً جديدة على طريق الشوك والعذاب: المفاوضات.
وبقدر ما تعلن إدارة كلينتون وتعمم أنها مستعجلة وتريد الوصول إلى “خاتمة سعيدة” للمفاوضات العربية – الإسرائيلية، ضاربة لذلك موعداً قبل نهاية العام الحالي، فإنها تعطي فرصة أعرض للطرف الإسرائيلي كي يستغل الضعف العربي العام ليفرض المزيد من “الوقائع الجديدة” التي تهز (وتكاد تنسف) الإطار الأصلي للمفاوضات،
… وها هو التفاوض على استئناف المفاوضات في العشرين من نيسان المقبل يستنزف من الجهد العربي ما كان ضرورياً إدخاره للموعد الصعب،
بقرار واحد استطاعت حكومة إسحق رابين، المتهمة “بالاعتدال” والآتية باسم معاقبة “التطرف” الإسرائيلي ممثلاً بإسحق شامير، أن تفرض على جميع المعنيين بأمر المفاوضات أن يغيروا “الموضوع”، وأن يغيروا “لغة التخاطف” وأن يعيدوا النظر في الأولويات!
وما كان ذلك ليتيسر لحكومة رابين لولا اطمئنانها إلى أن الراعي الأميركي (الجديد) سيكون أكثر استعداداً لحمايتها وهي “تخرب” أو “تعدل جوهرياً” في الخطة التي كان وضعها ورعاها مؤسس “مؤتمر مدريد” ومطلق عملية المفاوضات: جورج بوش.
المهم أن الأطراف العربية، وكلها حريصة على استئناف المفاوضاـ، ترى نفسها ملزمة على الدخول في “مفاوضات” صعبة مع الولايات المتحدة الأميركية حول “الجولة التاسعة” التي لا تأتي امتداداً آلياً للجولات السابقة، ولا تأتي خطوة إلى الأمام، بل لعلها تأتي انحرافاً عن سياقها المفترض بقرب نتائجها أكثر فأكثر من اتفاق الإذعان.
وعلى سبيل المثال لا الحصر:
فإن الفلسطيني يفاوض الآن واشنطن (وليس تل أبيب) على فلسطينيته!
بل إن هيخوض سلسلة متصلة من المفاوضات الشائكة وعلى مستويات متعددة، تدور بمعظمها حول ما كان يفترض أن يكون “بديهيات”.
هل هو موجود أم لا ؟ هذا للتفاوض، يفاوض على “هويته” فينكر عليه “وجوده” ويفاوض على “وجوده” فيتم حذف “نصفه” الذي في الشتات، وبالكاد يعترف بنصفه المقيم، ثم يفاوض النصف على نصفه: هل هو في المنظمة أم خارجها، وإذا كان خارجها فهل هو “إرهابي” في “حماس” أم عاقل مسلم سلفاً بحسنات الحكم الإداري الذاتي غير المحدد والذي لا يعترف له بأية حقوق سياسية… أي إنها مفاوضات خارج الهوية والوجود، ولا تعطيه أكثر من حقوق “الجالية الأجنبية”!
بعد اقتلاع من اقتلع من أرضه استجد بند جديد على جدول المفاوضات: لم يعد النقاش هل الفلسطيني عربي أم لا، وهل يحق له المشاركة مع سائر العرب، وهل هو موجود بذاته أم عبر الأردن… صار أي “مقاتل” غير فلسطيني، أو أنه فلسطيني مرفوض كمفاوض، وصار شرط القبول به مفاوضاً أن يتبرأ من فلسطينيته، فإذا ما فعل فلماذا التفاوض معه وعلى ماذا تدور المفاوضات؟!
صار التفاوض على المقتلعين وكيف ومتى وبأية شروط يعودون، وليس على فلسطينيي فلسطين وحقهم في أن يبقوا فيها وأن يبقوا فلسطينيين… خصوصاً وإنه يتعذر عليهم كما على إسرائيل أن تقبلهم “كمواطنين”!
.. والتفاوض حول المقتلعين يطعن في “شرعية” تمثل الوفد المفاوض (الفلسطيني): إذا كان أولئك “الإرهابيون” هم القيادة الفعلية ومصدر القرار فلماذا نفاوضكم أنتم حتى لو كانت تغطيكم قيادة منظمة التحرير؟!
والتبدل ليس شكلياً، طالما أن التفاوض يتم مع الأميركي… فليس سهلاً قبول هذا التحول في الدور الأميركي من راع للمؤتمر وقوة دفع له إلى الشريك كامل للإسرائيلي لا يقبل ما يرفضه ويحاول أن يفرض ما يقبله “حليفه الاستراتيجي”.
أما مع لبنان فقد شطب موضوعه الأصلي يوم تجاوزت المفاوضات – وبوعي – القرار الخاص بأرضه المحتلة (قرار مجلس الأمن الرقم 425)، وفرض عليه إطار آخر (شامل) يعنيه بوصفه بلداً عربياً ولكنه يفتح باب المساومة على أرضه في حين كان محصناً بقرار للشرعية الدولية ينص على “انسحاب إسرائيلي فوري وغير مشروط” منها”.
واليوم، تتم المساومة على تنفيذ القرار الجديد 799 الخاص بالمقتلعين، ومرة أخرى على حساب القرار السابق القاطع في وضوحه بالنسبة لحقوق لبنان في أرضه وسيادته عليها.
بل يفرض على لبنان، من خلال واقع أن إسرائيل استخدمت أرضه المحتلة كمنفى للمطرودين من أرضهم، أن يفاوض على سيادته فوق أرضه!
… وفي حين يلوح للطرف السوري، وبطريقة منهجية مدروسة، بالاستعداد لمفاوضته على أرضه المحتلة في الجولان إذا ما تخلى عن القضية وعن دوره القومي، فإن هذا التلويح يستخدم لاستدراج الفلسطيني إلى حل منفرد شبه مستحيل،
لكأنما يفاوض كل عربي على رفاقه وشركائه في هم الحاضر والمستقبل، بينما يتم تعطيل المفاوضات لاأصلية،
لكأنما يفاوض كل عربي ليس فقط على عروبته، بل حتى على حقوقه القطرية والكيانية، فالتلويح بالقطري – في مثل هذه المفاوضات البائسة – هو محاولة فاشلة لتزيين الجحيم، تارة باستخدام شبح “الأصولية” المخيف للخائفين أصلاً، وطوراً بإظهار الغضب الأميركي من التردد العربي إزاء التسليم بالشروط الإسرائيلية القاتلة.
لكأن الفلسطيني يفاوض على فلسطينية فلسطين،
ولكأن السوري يفاوض على سورية الجولان،
ولكأن اللبناني يفاوض على لبنانية الجنوب،
هذا بعد مفاوضة كل طرف على حدة وتزيين فوائد الحل المنفرد لكل طرف على حساب الأطراف الأخرى، مما يحكم على المفاوضات والمفاوضين بالإعدام.
بهذا المعنى فإن اللقاء الذي تشهده دمشق في هذه الساعات أخطر من كل ما سبقه، والقرار الذي سيصدر عنه سيعكس دقة اللحظة وحراجة الموقف الذي يواجهه العرب جميعاُ، وأقسى ما فيه اضطرارهم لأن يتظاهروا (على الأقل) وكأنهم يواجهونه منفردين حتى لا يتهموا بأنهم يخربون المفاوضات.
ولعل التفاوض في ما بين الأطراف العربية، ضمن هذا الجو، هو أصعب حلقات هذه المفاوضات المتفجرة مع العدو الإسرائيلي والتي لا نعرف بالدقة أين تكمن الكارثة: هل في نجاحها شبه المستحيل أم في فشلها الذي يصعب على العرب تحمل نتائجه؟!

Exit mobile version