طلال سلمان

على الطريق التفاوض بالمذابح!

بعد مذبحتين ضد العرب ومعركة “سياسية” ناجحة في قلب الإدارة الأميركية لمنعها من تكرار الخروج على النص الإسرائيلي، أمكن استصدار قرار هزيل من مجلس الأمن الدولي يتيح غموضه للعرب أن يعودوا إلى طاولة المفاوضات معقاتلهم الإسرائيلي في واشنطن.
في المساومة من أجل القرار – التعزية خسر العرب (بمن فيهم الفلسطينيون) القدس، إذ علقها الأميركيون على خشبة الاحتلال مستدرجين ومبررين موقفاً ملتبساً من قبل البابا الذي اختار أن يتصرف كرئيس لدولة الفاتيكان، بينما كان مطلوباً منه أن يكون رأساً للكنيسة الكاثوليكية ولرمزها “المصلوب” الذي تم الآن تجهيل “صالبيه” بنثر دمه على “القبائل” جميعاً…
وليس غريباً أن تطمس معالم الجريمة القديمة، طالما أن الجرائم – المجازر الحديثة جداً، والتي ما تزال دماء ضحاياها تهدر في ساحات المساجد والكنائس تخفى معالمها بعناية، فإن “تصرب” شيء من الحقائق عن الجناة وصموا فوراً بالمخبولين (وليس أبداً بالإرهابيين أو حتى بالمتطرفين) لكي تطمس الشفقة هويتهم السياسية وتجعل إدانة “المجرم الأصلي” متعذرة.
متى برئ “قتلة السيد المسيح” لا تعود مستهجنة تبرئة مُفجر كنيسة.
وإذا ما استصدر عفو عن سفاحي شعب بكامله فبديهي ألا توقع عقوبة صارمة على سفاحي الحرم الإبراهيمي.
إذاً سيعود العرب إلى التفاوض مع “قاتلهم” وقد نزفوا المزيد من دمائهم ومن مواقفهم المعلنة.
لقد تم تأديبهم، على أرضهم، ثم جاء مجلس الأمن فحدد سقف العقوبة، وهكذا أدبهم مرة أخرى، ثم أرسلهم مخفورين إلى واشنطن لكي يفاوضوا بلا أوهام: إن إسرائيل الأقوى منهم في فلسطين وما حولها أقوى منهم أيضاً وبما لا يقاس في نيويورك (حيث حائط مبكاهم، الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن) وأقوى منهم أيضاً حتى في الفاتيكان، وذلك لأنهم أقوى على واشنطن وفي واشنطن من الرئيس الأميركي ذاته.
هل كانت المذبحتان في الحرم الإبراهيمي بالخليل في فلسطين المحتلة، وفي كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل على مدخل جونيه بكسروان، “ضروريتين” لإسقاط الآمال المعلقة على قمة جنيف إياها؟
… وعل كانت موجة الفضائح الشخصية والمالية التي أطلقت ضد الطرف الأول في تلك القمة، الرئيس الأميركي بيل كلينتون، إلا “الممحاة” التي أزيلت بها معظم “الكتابة” التي نقشها على الذاكرة الأميركية الرسمية الرئيس حافظ الأسد على ضفاف بحيرة ليمان في عصر ذلك الأحد الأوروبي القاتم قبل شهرين؟!
وتأثيرات تلك القمة تبدّت جلية من خلال ردود الفعل الإسرائيلية على نتائجها المحتملة، والتي تعاملت معها وكأنها جولة أساسية في الحرب المفتوحة.
*في البداية كان ادعاء رابين بأنه لم يسمع (من الرئيس الأسد) ما كان يتوقع سماعه.
* ثم كانت خدعة الدعوة إلى استفتاء الإسرائيليين حول الانسحاب من الجولان، مع تطمينات مغشوشة من أن ذلك الاستفتاء ليس إلا مخرجاً لائقاً من ورطة سياسية يمكن أن تحولها المزايدة إلى أزمة مفتوحة.
* وفي ظل الاطمئنان إلى “انضباط” الليكود وامتناعة عن المزايدة المحرجة، ولو لأسباب تكتيكية، ثماللجوء إلى “الاحتياط الاستراتيجي” ممثلاً بالمستوطنين، لكي يعلنوا الرفض وبأفصح لغة: القتل الجماعي!
* وإذا كانت حركة السلام الآن” هي “الدواء المطهر” وهي الغلالة الرقيقة المدخرة دائماً لإعلان قدر من البراءة في “المجتمع” الإسرائيلي من وحشية قياداته وأحزابه الحاكمة وجيشه ومخابراته، فإن “المستوطنين” هم التسمية الحركية المعتمدة الآن للتطرف والإرهاب و”مقاومة” انحرافات السلطة.
مذبحة جماعية ثم تظاهرة غاضبة، بالآلاف، لحركة السلام الآن، لتبرئة “الدولة”، فتظاهرة غاضبة مضادة، لمزيد من الآلاف، للمستوطنين ومناصريهم، فإذا خير أولئك قد ذهب بشر هؤلاء، وإذا الله قد عفا، وإذا الحكومة والجيش والمخابرات و”المجتمع” والدولة قد نالت البراءة ومعها بسمة “الاعتداء” والحرص على العملية السلمية.
على أن الحكمة تفرض ممارسة أقصى الضغط على الإدارة الأميركية حتى لا يدفعها حرصها على المفاوضات وقدوم العرب للمشاركة فيها إلى التسرع في تعميم الإدانة، أو المطالبة بدية للضحايا لا تقل عن الإصرار على التعجيل بانسحاب قوات الاحتلال… خصوصاً وإنها لم تنفع في تأمين الأمن لا للمحتلة أرضهم ولا للمستوطنين ولا بالتالي للكيان ككل.
إذاً سيعود المفاوض العربي إلى واشنطن مهشماً مضرجاً بدمائه.
وإذا كانت مذبحة الحرم الإبراهيمي موجهة إلى فلسطينيي الأرض المحتلة لإلزامهم بحدود في “انتفاضاتهم” وفي اعتراضاتهم على القيادة الرسمية صاحبة التوقيع، فإن تلك المذبحة تنفع أيضاً في ترميم صورة القيادة إياها، إذ تمنحها فرصة للمساومة على الدم المراق بحيث تبدو متشددة في الشكل بعدما ضاع المضمون كله.
أما تفجير الكنيسة في ذوق مكايل، بعد تفجير بيت الكتائب المركزي، وبعد سلسلة أعمال الشغب المحدود التي توالت خلال الشهور القليلة الماضية، فإن ذلك كله يندرج في سياق الحرب الإسرائيلية المفتوحة في لبنان لخلخلة أوضاعه القلقة بعد، ولهز توازنه الهش،و الأهم: لإرباك القيادة السورية التي افترضت أنها حققت فيه نصراً سياسياً من الدرجة الأولى، كما حققت في جنيف مكسباً دبلوماسياً جاء لتعزيز ر صيدها المتعاظم بعد التهالك السريع والدراماتيكي لاتفاق غزة – أريحا.
الآن يمكن لمن لا يصدق إلا على طرقة توما: وضع الأصبع في الجرح أن يصل إلى يقين حول هوية مفجري كنيسة سيدة النجاجة في الذوق.
لقد ذهب العرب في البداية إلى المفاوضات بمذكرات جلب.
وها هم الآن يذهبون إلى استئنافها تسبقهم جراحهم النازفة.
أما “الشريك الكامل” و”الوسيط النزيه” فيداري أن يكتشف الناس آذانه المقطوعة بإخفائها تحت طاولة المفاوضات بين قادر لا يريد أن يعطي شيئاً وبين عاجز لا يستطيع أن يرفض ما يعرض عليه، حتى لو كان التفاوض للتفاوض.
فذلك قد يمنع المزيد من المذابح الجماعية والخسائر السياسية.
لاسيما وأن الرصيد البسيط المتبقي إلى نضوب.

Exit mobile version