طلال سلمان

على الطريق التسوية في الطائف و”حربها” في بيروت حواجز على طريق العيد!

أخيراً، تنفست الطائف، بكل من فيها ومن حولها، الصعداء، بعدما اطمأنت (واطمأنوا) إلى قرب انتهاء “مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين” الذي أوحى ماراتون الجدل فيه إنه سيكون، مثل الحرب في لبنان، بغير نهاية معلومة.
أخيراً صار ممكناً للمحتجزين في قاعات الانتظار، أو للمحددة إقامتهم في كواليس الهمس، أن يخرجوا إلى الشرفة وأن يغبوا ملء الرئة المتعبة (بالزمن وهمومه والنسيان وآلامه والدخان ومضاره) النسمات الصحراوية المنعشة لليالي الأولى من خريف هذا المصيف الملكي، وأن يتأملوا معالم المدينة النائمة وهي تستحم بالضياء الفضي لقمر ربيع الأول المقترب من الاكتمال بدراً…
أينك يا قمر مشغرة، يا بدر وادي التيم، يا فيروز “الميزرة بالغيم”؟!
أينك يا بحمدون الضيعة التي تستولدها هدأة الليل المفضض في هذه المدينة البليدة الحركة المقتعدة منبسط ما قبل القمة العالية لجبل غزوان؟!
أينك يا لبنان، بقديمه والجديد المفتقد، من كل هذا الذي قيل هنا، ما أقر منه، وما لم يقر، ما صدر عن رغبة عارمة في الحل، في السلام، في العودة إلى البيت، أو ما صدر بالمزايدة للقفز إلى الواجهة، طالما إنه لا يدخلها إلا المتطرفون، أو حماية للذات من أولئك المتشنجين والموتورين من أزلام أمراء الحرب وجنرالاتها، المتربصين بالعائدين أمام بيوتهم في بيروت أو على الطريق إليها؟!
أخيراً، تنفس الجميع في الطائف الصعداء، وفي الطليعة منهم الصحافيون المختنقون بالضجر وافتقاد الجدوى وبالتكرار الممل والبطالة، فهم سيعودون – بعد انقطاع – إلى الحركة، إلى رصدها وإلى استيلادها إذا استكان الجميع في قلب الركود.
كل يشعر الآن إنه حقق بعض ما كان يعمل له أو يأمل فيه:
*اللجنة العربية بوزرائها الثلاثة، الفيصل والفيلالي وغزالي، وبالدبلوماسي الفدائي الأخضر الإبراهيمي والسفيرين عبد الكريم غريب (الجزائري) والدكتور أحمد رمزي (المغربي) تعتبر إنها صبرت فنالت ولم يضع سدى جهدها في الاستماع والقراءة والاعداد، ثم في المجادلة ومقارعة الحجج والذرائع بالمنطق والوقائع الباردة وسائر وسائل الإقناع، وأخيراً في الضغط للإنجاز بعدما وفرت بجدية المسعى وكرم الضيافة وحلم الكريم المطلوب من الضمانات للخائف والمغبون والمذعور من كليهما سواء اختلفا أم وحدهما وفاق ما.
* المدينة: وبالتالي المملكة، لم تقدم ضيافتها لفشل مؤذ، بل هي تستطيع أن تباهي بأنها وإن كانت الأخيرة زمانها فقد جاءت بما لم تستطعه المدن السابقة إلى استضافة “الحوار الوطني حول مستقبل لبنان”، من بيروت إلى جنيف ثم لوزان، وأخيراً وإن كان بشكل جزئي بكفيا وخلوتها التي وفرت حيثيات القطيعة قبل أن يوفر ابنها البار، أمين الجميل، مبررات تجديد الحرب وإدامتها بجنرال التحرير وحكومته العسكرية النصف كم.
* الطوائف بمجموعها.. فالخائفة أو السجينة والمحتجزة في قوقعة الخوف، هدأ روعها، نسبياً، والمغبونة نالت أو أنيلت عبر الناطق باسمها ما يذهب بشكواه من الحرمان، وتلك الطائفة أو المضيعة في صراع الطوائف القوية أو طوائف الأقوياء، تأمل بأن تستعيد وعيها ودورها، الآن، في ظل التوازن المأمول…
* والبرلمانيون اللبنانيون الذين جاءوا آحاداً، من كل فج عميق، يستشعرون الآن قدراً من “وحدة الموقف” و”وحدة المصير”، ولو بالمعنى المهني، كما إنهم يستمدون من القدرة على الإنجاز (أي إنجاز)، منعة أو حصانة قد تحميهم من انتقام “الجبابرة” الذين لم يكونوا يريدون لهم النجاح، ولو محدوداً، وكانوا يضغطون ويهولون عليهم لكي يفشلوا فتستمر الحال على ما هي عليه، ويستمر كل في موقعه، في انتظار الحل المستحيل الذي لا يأتي ويعملون حتى لا يكون المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل،
… والعيد بعيد، بعد، والفرح مؤجل حتى تنجز هذه الخطوة الأولى على طريق الألف ميل في اتجاه السلام الوطني في البلاد التي مزقتها حروب الطوائف وشردت أهلها تحت كل سماء.
ليس هو الاصلاح، تماماً هذا الذي توصل إليه البرلمانيون اللبنانيون، بعد أربعة عشر يوماً من النقاش الملخص للدروس والعبر والأحقاد والمراراة التي تراكمت على امتداد أربع عشرة سنة طويلة من الفتن والحروب والمذابح الجماعية والضياع وافتقاد البديهيات.
ليست هي صورة الغد الأفضل، هذه التي أنتجها مشروع الحل العربي في المرحلة التمهيدية، ولكنها قد تكون بداية النهاية لعصر الأمس، عصر القهر والغبن والهيمنة المشفوعة بالخوف، عصر مجافاة حقائق الحياة وإنكار إنسانية الإنسان، ومن ثم حقوقه الطبيعية، عصر الحرب الأهلية بكل أدواتها القذرة وشعاراتها المزورة وضحاياها الكثر.
لقد أقرت الطوائف، عبر لقائها وجدلها الطويل وشبه العقيم في الطائف، بحقائق أولية كانت واضحة حتى من قبل الحرب، ولم يطمسها الدم المسفوح، ومنها:
1 – لا تستطيع طائفة، أي طائفة وكل طائفة، أن تكون بذاتها دولة، فكيف بالدولة، أو بديلاً لها، ولا تملك أن تقيم دويلة بحماية الانقسام في الداخل أو باستيراد الضمانات من الخارج.
2 – التسوية الممكنة في ظل حرب طائفية، بشعاراتها وأدواتها واستهدافاتها السياسية، لا يمكن أن تكون إلا طائفية،
ولكنها، بكونها تسوية، لا بد أن تتيح هامشاً أوسع للصراع السياسي، أي لإعادة تظهير الواقع الاقتصادي – الاجتماعي – الثقافي بمعطياته الأساسية، وهنا يكمن الأمل في غلبة ما هو ساسي على ما هو طائفي، ولو بعد حين،
والرهان على المستقبل هو رهان على هذه “الحتمية”، وإن كانت الحتميات قد تهاوت تحت ضربات المناخ الطائفي المسموم في البلد المركبة طوائفه كما الزجاج الملون المعشق في نافذة تفتقد الجدار.
3 – التوجه نحو المؤسسات، كائنة ما كانت، يسرع عملية الانتقال من دولة الطائفة الواحدة المتهالكة والمهددة سكانها بالفناء إلى دولة كل الطوائف التي قد توفر فرصة للتوازن ولأعمال العقل وابتداع صيغة تقترب بالكيان أكثر فأكثر في اتجاه الدولة.
وفي بلد كلبنان تبدو الدولة شرط وجود لمشروع الوطن، في حين يظل الكيان مانعاً لقيامه، كونه ينمي الوهم بأنه إنما فصل على مقاس طائفة معينة ومن أجلها، ومثل هذا الوهم يجعل التسوية مستحيلة، ومع استحالة التسوية يفقد الكيان مبررات وجوده، داخلياً وخارجياً.
4 – في ظل الطائفية، والغرائز المستنفرة، لا يبلغ القمة إلا الأسوأ، الأقل كفاءة، الأظلم والأشد طمعاً والأسلس قياداً لمصالح الأجنبي.
وعلى سبعة رؤساء للجمهورية، منذ الاستقلال، يكاد “الموارنة” يتبرأون ويبرأون بأنفسهم من “إنجازات” خمسة منهم، وربما سنة، والبعض يصل إلى السبعة، ويقرون مضطرين بأنهم – كطائفة – كانوا في موقع المتضرر والضحية، بينما هم متهمون بالهيمنة واحتكار السلطة و”أكل البيضة والتقشيرة”.
وبغض النظر عن مدى الدقة والأمانة في هذا الادعاء، فإن منطق “الموارنة” عند مناقشة صلاحيات رئيس الجمهورية كان متهالكاً كونه كان مثقلاً بتجارب مفجعة أقربها إلى الذهن تجربة “الإمبراطور” أمين الجميل.
ففي ظل ما يفترض إنه “نظام جمهوري ديموقراطي برلماني” استطاع هذا “الولد الشاطر” الآتي من ليل حزب طائفي كالكتائب ، والمتوسل الغزو الإسرائيلي وبدباباته طريقاً إلى “الرئاسة الأولى”، أن ينهي وجود الدولة في لبنان، بخزينتها ونقدها، بمؤسساتها وبدورها الذي لا يعوض عربياً، وبسمعتها ورصيدها على المستوى الدولي.
ولأنه تحصن بالطائفية فقد تعذر إيقافه عند حد، وهو على رأس السلطة، فاقترف الكبائر، من اتفاق 17 أيار إلى زج الدولة وجيشها في مسلسل الحروب ضد الطوائف، بحيث مزق الروابط وصلات القربى، ودمر اقتصاد البلاد واستقدم الجيوش الأجنبية ليستعين بها على شعبه وأهله الأقربين،
فالطائفة لا تعطل العقل فحسب، بل هي تلغي الوطن والوطنية، وتشوه القيم والمفاهيم والأعراف، فإذا العدو حليف، وغذا الأخ الشقيق عدو مبين يهدده الرئيس الكتائبي، من واشنطن بقصف عاصمته بينما هو يكاد يبرم صلحاً منفرداً مع الإسرائيلي.
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل، ولا رابط ولا لقاء حتى الآن إلا عبر هذا التوافق التمهيدي بين البرلمانيين اللبنانيين في الطائف.
والمشكلة في بيروت، بشرقها وغربها، خصوصاً وإنرأس حربتها الجنرال، يقبع بعد في الملجأ الجمهوري ببعبدا، ويوجه مدافعه في اتجاه مشروع التسوية الوليدة التي تحتاج جهوداً جبارة ومعارك ضارية لكي تستطيع الوقوف على قدميها ومواجهة المنتفعين بالحرب والعاملين لإدامتها.. بمزيد من الاستنفار الطائفي.
ومشروع التسوية العتيد، مثله مثل الخطة الأمنية، خطوة أولى ضمانتها في الخطوات التالية، تلك التي تنقلها من النوايا الطيبة والتوافق الشخصي إلى حيز القرار القابل للتنفيذ بعدما يكتسب شرعيته الكاملة،
وكما إن الوصول إلى هذا المشروع كان يتطلب اعترافاً شجاعاً بطبيعة المشكلة، وإنها – في جوهرها – لبنانية – لبنانية، قابلة للتوظيف والاستعمال من قبل القوى الخارجية… ويتطلب بالتالي اعترافاً شجاعاً بضرورة الاصلاح السياسي وحتميته إذا ما أريد للبنان أن يبقى، وأن تقوم فيه دولة، ومن ثم توافق على قدر من الاصلاح بنقل السلطة من “الطائفة العظمى” ليعيد توزيعها على مختلف الطوائف بما يحقق القدر اللازم من التوازن لقيام “الدولة”،
… ويتطلب جهداَ عربياً مكثفاً ومسؤولاً لا يوفر الرعاية والضمانة للتوازن العتيد، بحيث لا تشعر طائفة بأنها – بالتنازل المحدود الذي قدمته – إنما شطبت أو تهدد وجودها بخطر الفناء الداهم،
كذلك فإن اكتساء هذه التسوية الوليدة باللحم، وتحولها إلى خطة عمل وإلى صيغة قابلة للحياة ومؤهلة لاستيلاد الدولة المفتقدة، يتطلب مثل هذا الجهد وأكثر، والمزيد من الرعاية حتى لا يفرط التوافق أو ينفرط عقد المتوافقين مع أول طلقة مدفع أو مع أول سيارة مفخخة، على آخر ما في جعبة المتضررين من التوافق والذين لن يدخروا جهداً في تخريبه وتعطيل قيام الدولة.
لقد بدأ عمل اللجنة العربية، بمستواها القيادي الأعلى، كما بمستوى وزرائها الثلاثة الذين أثبتوا إلى جانب كفاءة الصبر إنهم جديون وعمليون بما يتناسب مع خطورة المشكلة التي يتصدون لحلهاز
وها هو الجنرال يشهر الحرب على اللجنة العربية العليا، وعلى قمة الدار البيضاء وقراراتها، وعلى أحلام السلام والوطن، والدولة والعودة إلى البيت.
والجنرال جبار، فهو منذ سنة تقريباً يقاتل العالم كله.
وقد آن أن تنتهي حروب الجنرال أو تنهي،
ذلك شرط نجاح للجنة العربية الثلاثية، بكل التأييد الدولي الذي تحظى به،
وهو شرط حياة للتسوية، بل للبنان واللبنانيين،
والعيد ينتظر نصراً في هذه الحرب الجديدة، التي يأمل الجميع أن تكون آخر الحروب، والتي يأمل الجميع أن يقال إن نهايتها قد بدأت في لقاء البرلمانيين اللبنانيين بالمصيف الملكي في الطائف، وفي الضياء الفضي لبدر ربيع الأول.

Exit mobile version