طلال سلمان

على الطريق التسوية الممكنة والحل المستحيل!

برغم كل غيوم اليأس وهموم الأمن المفتقد وغياب الطمأنينة فإن اللبنانيين يملكون بعد، فرصة للوصول إلى تسوية مقبولة تخرجهم من الكابوس الجهنمي الذي يثقل صدورهم حتى يكاد يخنقهم،
وشرط هذه التسوية، الممكنة فعلاً بدليل النجاح ولو المحدود لمؤتمر جنيف والفشل المحدود لمؤتمر لوزان، والنتائج المرضية لقمة دمشق، أن يتدخل المواطن العادي فيرمي بوزنه فيها موظفاً شوقه إلى الحياة وهو شوق لا ينضب كما تثبت تجربة السنوات العشر العجاف.. فبفضل عشق الحياة، والحياة في لبنان تحديداً، تحمل هذا اللبناني آلام الحرب الهائلة ومآسيها التي تفوق الوصف حتى الآن.
حتى تشكيل هذه الحكومة ، بالملاحظات التي سجلت أو يمكن أن تسجل على تشكيلها، تقدم دليلاً أولياً على إمكان عقد تسوية ما، ولو مؤقتة في لحظة سياسية محددة، وضمن معطيات محددة لتوازن في القوى محلياً وإقليمياً.
على إن هذه التسوية المؤقتة تحتاج لكي تتحول إلى تسوية دائمة، أي حل للأزمة اللبنانية، إلى نضال مرير ضد الوحش الطائفي الذي تنميه فينا جميعاً وبلا استثناء ممارسات القوى المتحكمة بالصراع والمزورة لطبيعته تمهيداً للوصول به إلى النتائج التي تريدها هي والتي لا يريدها الناس عامة، لأية طائفة انتسبوا.
فبدلاً من أن يطرح المأزق الذي نعيشه الآن بطبيعته وعلى حقيقته كمأزق وطني من الدرجة الأولى أي كمأزق سياسي – اجتماعي – اقتصادي – ثقافي – عسكري ، تزور الحقائق والوقائع والمعطيات ليمكن من ثم تهييج الغرائز الطائفية وتوظيفها بما يمنع محاسبة السمؤولين الحقيقيين عن الكارثة، ويضمن من ثم استمرارهم ودوام عزهم ولو باستمرارها!
وهكذا نحاصر في الحلقة المفرغة إياها: النظام الطائفي ينتج طائفيين يعيدون إنتاج النظام الطائفي،
بل إننا في أعقاب كل “جولة” نعاني مزيداً من الآلام إذ تضيق من حولنا الحلقة، بسبب تفاقم طائفية النظام.
فتزوير طبيعة المأزق الوطني وجعله يبدو مأزقاً طائفياً يفرض أن يأتي “الحل” الملفق من طبيعة طائفية، وهذا يعني إضعاف بل إلغاء الصراع السياسي ونسف أي توجه نحو الديموقراطية واحترام إنسانية الإنسان وحقه في الحياة.
ولسوف ترتكب حكومة الرئيس كرامي الخطيئة المميتة إذا ما ارتضت أن تسجن نفسها في التصور المغلوظ للأزمة، وانهمكت كسابقاتها من الحكومات في تلفيق حل طائفي لها،
فالمأزق الوطني يستحيل أن يحل حلاً طائفياً، بل يصبح مثل هذا الحل وحشاً يلتهم الوطن والمواطنين ولا يبقي غير هذا الكيان الأشوه وغير هذا النظام المتخلف والذي تتناقض قدرته على النمو (حتى لا نقول التطور) بعد كل فتنة مدبرة، وبعد كل تفجير أمني مقصود ومدبر لاستنزاف آخر ما تبقى من قدرة الناس على الصمود ومقاومة الانهيار والاستسلام والتسليم بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان.. أي من الحل الطائفي الملفق الذي لا يشكل في حقيقة الأمر أكثر من هدنة مسلحة باهظة التكاليف.
صحيح إن هذه الحكومة تحمل دمغة الواقع الطائفي المقيتن إذ تحكمت الوحوش الطائفية المتكاثرة بولادتها شبه القيصرية ثم ببيانها الوزاري، ولكنها تملك فرصة جدية لأن تطلق الصراع السياسي من عقاله لكي يصحح ما يمكن تصحيحه أو إنقاذه من طبيعة الأزمة والمأزق عبر منهجها في إدارة الصراع.
إن هذه الحكومة مرشحة لأن تكون إحدى اثنتين: إما حكومة تؤسس لمشروع دولة تشكل العمود الفقري لمشروع وطن، وإما هيئة ملية تحول الكيان الطائفي الواحد إلى فيدرالية الطوائف في لبنان،
ولكي تكون حكومة فلا بد من أن تعيد الاعتبار إلى الصراع السياسي، وبادئ ذي بدء بين أعضائها ذاتهم، برغم إنهم أتوا أصلاً كممثلين لطوائفهم أو حتى للاتجاهات الأكثر طائفية ضمن طوائفهم،
فمطلب الاصلاح السياسي ليس تعدياً من طائفة على أخرى، بل هو حق للمواطنين جميعاً، بمختلف أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم.
وفي غياب مثل هذا المفهوم تستحيل المحاسبة ويتعذر التصحيح، إذ لا يعود اللص لصاً بل يصير بقدرة قادر رمزاً لامتياز من امتيازات الطائفة المعنية وتصبح محاكمته على جرمه إدانة للطائفة ومسا بكرامتها، وكذلك الأمر بالنسبة للمزور أو المنحرف وصولاً إلى المتعامل أو المرتبط بالعدو الإسرائيلي،
وفي ظل تغييب الصراع السياسي لحساب الوحش الطائفي تصبح المطالبة بتغيير قائد الجيش مثلاً، دعوة إلى الفتنة، وخلع هذا المدير العام أو ذاك تفجيراً متعمداً للوضع الأمني واستفزازاً للطائفة التي يصدف إنه ينتمي إليها،
وبالطبع فلم يحدث مرة ولا يمكن أن يحدث أن تستخدم الطائفية لتزكية موظف كفوء ونزيه وأمين، فمثل هذا الموظف لا يحتاج إلى تزكية مشينة تلغيه كإنسان وتتعامل معه كشيء أي كخانة في جدول إحصاء لا أكثر،
أسوأ من ذلك: في ظل تغييب طبيعة المأزق الوطني الذي نعيش لا يعود ممكناً الوصول إلى حل لمسالة الجيش، دوره ومهمته وبالتالي عديده وعتاده، فإذا كانت مهمته حماية الامتيازات الطائفية فلا بد أن تكون بنيته طائفية ومفاهيمه طائفية وقيادته احتكاراً لطائفة، وإلا اهتز يقين البعض بضرورة وجود لبنان ذاته!
وفي مثل هذه الحالة تصبح مقاومة الاحتلال الإسرائيلي تعدياً صارخاً على أمن الطائفة وخروجاً على أصول التحالف بين الطوائف. فواحدة أو بعض الطوائف لها حرية التحالف مع سوريا على سبيل المثال، وبالمقابل فللطائفة أو للطوائف الأخرى حرية التحالف مع إسرائيل التي لا يجوز – إذن – وصفها بالعدو.
وفي ظل المنطق الطائفي ليصبح مقبولاً أن نتواطأ بعض الطوائف على البعض الآخر بتحالفات خارجية فهذا لا يشكل خروجاً على الكيان، ولا على أصول اللعبة الطائفية والشاطر بشطارته، والشاطر ما مات!!
وفي ظل مثل هذا المنطق يصبح مقبولاً أن تتواطأ هذه الطائفة مع تلك على الطائفة الثالثة أو الرابعة، أو على سائر الطوائفز
ويصبح مقبولاً بالتالي عقد صفقات تآمرية بين الطوائف “الممتازة” أو “المميزة” بدلاً من أن يتلاقى الجميع على استنباط حل وطني شامل يحقق عدالة في الحقوق والواجبات بين المواطنين كافة، مع الأخذ بالاعتبار واقع تعدد الانتماء الطائفي للبنانيين.
فهل يستطيع الرئيس رشيد كرامي ومن معه أن يقرب حكومته من صورة “الجبهة” بين أطراف سياسية لها صبغتها الطائفية، فارضاً على الآخرين وبالتحديد على قوى المعارضة المحتملة أن تطور لغتها ومناهجها بحيث تقترب من أصول اللعبة الديموقراطية في الصراع السياسي الطبيعي والمطلوب بل والمشتهى في بلد كلبنان؟!
هل يستطيع أن يفيد من فشل الرهانات البائسة لبعض أعضاء حكومته، ومن النجاحات المرضية التي حققها البعض الآخر، ليخلق مناخاً سياسياً صحياً يساعد على إطلاق سراح المواطنين وفرض الحصار على الوحش بل الوحوش الطائفية، التي تعبث فساداً وتسحق الأماني والأحلام والطموحات المشروعة إلى غد أفضل؟!
إن ثمة توازناً نفسياً بين أعضاء الحكومة الكرامية: فبعضهم قد هُزم بما يكفي ليقبل التسوية، وبعضهم قد حقق نجاحاً كافياً للدخول في التسوية،
كذلك فثمة جنوح عام عند الناس نحو الرضا بالحد الممكن من الاصلاح والتطوير مقابل توفير الأمن، الضروري في كل الحالات ليأخذ الصراع السياسي مجراه بالوسائل والأساليب شبه الديموقراطية،
وثمة أيضاً مأزق حقيقي تعيشه كل طائفة على حدة، وتعيشه الطوائف مجتمعة وهي تواجه خطر الانتحار على عتبة التقسيم أو اندثار الكيان برمته،
فهل تكفي هذه الأسباب لإعادة الاعتبار إلى الصراع السياسي وإلى النظر مجدداً في الأزمة وفق طبيعتها وليس وفق مقتضيات مصلحة أمراء الطوائف؟!
لقد تعودنا باستمرار، أن يلجأ هؤلاء الأمراء إلى تهييج الغرائز الطائفية واستيلاد الوحوش الطائفية المكلفة بحراسة تخلف النظام كلما اشتد الصراع السياسي في البلاد ولامس المشكلات الجوهرية والأساسية التي يعاني منها الناس، وأبرزها نقص النمو في النظام اللبناني المعاق وعجزه عن مواكبة قدرة الفرد اللبناني على التطور واستيعاب روح العصر ومجافاته لطبيعة الأشياء وحقائق الحياة التي تشكل هوية لبنان وتحدد انتماءه ودوره ورسالته وموقعه في هذه الدنيا.
لكن التجارب المريرة والمكلفة التي عشناها عبر سنين طويلة طويلة كافية لأن تقنع أعظم المتعصبين عناداً بأن لا حلول من طبيعة طائفية لأية مشكلة تواجه المواطن في لبنان، بل على العكس تماماً: فطمس طبيعة الصراع يعقد إمكان الوصول إلى حل حقيقي للمشكلات ، إذ إن الحلول الملفقة التي تفبرك في ليل تزيد من أسباب الخلل (والتفجر) في الوضع المغلوط وتزيد في صعوبة التصحيح مستقبلاً حتى ليبدو الاصلاح وكأنه رابع المستحيلات.
وفي ضوء مثل هذا الواقع تستحيل ولادة “رأي عام”، وتظل الأكثرية محكومة بالخرس، فإذا همهمت كمثل ما فعل بعضها عبر الدعوة إلى تظاهرة 6 أيار هدرت مدافع الطائفيين فجعلته يختار أمراً من شرين: أما الرحيل إلى أي “جهنم أحمر” على حد تعبير صديقنا الأرمنين بتذكرة ذهاب بغير إياب، وإما الانطواء على ذاته وتسليم قياده إلى أي كان، حتى لو كان واثقاً إن هذا “القائد” سيحول بيته وحياته إلى “جهنم أحمر” أبدي النار!
إن التسوية ممكنة، بعد،
لكن شرطها أن نقتل الوحش الطائفي في صدورنا قبل أن نتصدى لمواجهته في صدور الغير،
ولا مجال لأن نتخلص من هذا الشعور بقرب الاختناق إلا إذا أخرجنا من صدورنا الوحش الطائفي الضاغط عليها بثقله القاتل،
ولا مجال لمواجهة جدية مع الاحتلال الإسرائيلي تنتهي بإجلاء العدو وتحرير المحتل من أرض الجنوب والبقاع الغربي والجبل، إلا بفضح التزوير المتعمد في تصوير مازقنا الوطني وكأنه مأزق طائفي بحيث يصبح الجنوب مسالة شيعية والبقاع الغربي ومعه إقليم الخروب مسألة سنية والشوف مسالة درزية، ولا شأن لأي مواطن من غير أبناء الطائفة أن يتعاطى أو يهتم بالتحرير!
ومن أجل إعادة الاعتبار إلى العمل السياسي، إلى الصراع السياسي لا بد أن يلقي المواطن العادي، الإنسان بثقله في الميزان موظفاً شوقه للحياة وحقه فيها.
ألم تشتاقوا جميعاً إلى رؤية عاشقين يتمشيان على الكورنيش، اليد في اليد، والعين في العين، والجو عبق ياسمين؟!
ألم تشتاقوا إلى “سيران” في عرمون، أو في سهل الأقحوان والشقائق والنرجس ، ورفوف الترغل والمطوق والحساسين، ومن بعيد يأتيكم صوت فلاح عاشق للأرض يغني لها ولمن فيها أغاني الشوق والحب والرغبة ولوعة الهجر والحنين إلى ولوج الحلم واستيطانه؟!
فلنتدخل ، إذن، لكسر الحلقة المفرغة،
فلنثبت إننا أقوى من الوحش الطائفي،
فلنحم حقنا في الحياة بتوظيف عشقنا للحياة من أجل أن تكون لنا وللبنان معنا حياة جديرة بنا وبه.

Exit mobile version