طلال سلمان

على الطريق التسريب المباح والتأديب النضاح!

صباح الخير، خامسة، من بيروت – المساء التي عليها (وأمرها لله) أن تستضيفنا، بعد، يوماً آخر، أنا وافتتاحيتي “على الطريق” وبعض زملائي في “السفير”.
و”السفير” عائدة باسمها ولونها وخطها ولغتها صباح خير الخميس، بعد غد، مع انعقاد محكمة المطبوعات ليس لمحاكمتها فقط وإنما لمحاكمة القرار بتعطيلها أيضاً وعبره كل ما يقيد الحريات عموماَ وحرية الصحافة خصوصاً وبالذات المرسوم 104 الذي أتاح لأهل السلطة، وبغض النظر عن أهليتهم ورصانتهم واستيعابهم لروح القانون، أن يسيئوا – متى شاءوا وحيث شاءوا – استخدام سلطتهم وأن يطغوا ويتجبروا ويكموا الأفواه باسم القانون ودولته… الحلم!
“السفير” عائدة أعظم مما كانت وأقوى، بعدما أضاف إليها هذا الاحتضان الشعبي الرائع والذي لم يسبق له مثيل، وأغناها فحولها من جريدة إلى قضية، ومن مطبوعة لبنانية إلى راية للشوق العربي إلى الحرية، ومن كم من الصفحات والأوراق المطبوعة إلى رمز لمقاومة القهر والظلم وتهور السلطانز
“السفير” اليوم، وأكثر مما كانت عبر تاريخها الغني، “صوت الذين لا صوت لهم” في لبنان كما على امتداد هذه الدنيا العربية البائسة بظروف القمع والقهر والاظلام المفروضة عليها.
و”السفير” هي ، وأكثر مما كانت عبر تاريخها القومي “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
وها هي أصوات عشاق الشمس والحقيقة والحرية والحق والخير والجمال والحب ترتفع في مشارق الأرض العربية ومغاربها، تغني اسم “السفير” ولا تطالب بتحريرها من الأسر فحسب، بل تعتبر المس بها جريمة قومية وجناية بحق الأمة.
لم يبق قلم شريف إلا وكتب، ولم يبق صاحب راي غير مرتهن إلا وأطلق النفير، في مصر كما في الكويت، في الإمارات العربية المتحدة كما في اليمن، في المغرب كما في الجزائر، في السودان كما في الأردن: إن أرفعوا أيديكم عن “توأم الصبح”، عن جريدة العرب جميعاً، عن الحرية وحق المواطن العربي في أن يعرف وفي أن يختلف مع حاكمه.
… أما وإننا متهمون بأننا ضحية تسريب إسرائيلي لم يكتشفه إلا رئيس يالحكومة وواحد من وزرائه – البطانة، فيهمنا أن نؤكد صدق الاتهام بأن ننشر هنا ما “سربه” إلينا – مجدداً – العدو الإسرائيلي ممثلاً برئيس وفده المفاوض في واشنطن من أنه: لا انسحاب من لبنان إلا بعد الوصول إلى ترتيبات أمنية وفي إطار معاهدة سلام!
وسنتجاوز أكثر فنعمد إلى “تسريب” ما يقوله رئيس وفدنا المفاوض سهيل شماس، العائد من واشنطن، والذي جاء – بالمصادفة – مطابقاً لموقفنا ومنطقنا في تبرير نشر تلك الوثيقة الفائقة السرية التي تورطت في إذاعتها “السفير” فعطلت وقدمت إلى المحاكمة لتأديبها بحيث تكون عبرة لمن يعتبر!
“يسرب” شماس: في كلام لوبراني نفس من اتفاق 17 أيار!
و”يسرب” إلينا ما مفاده: إن جوهر الموقف الإسرائيلي المعلن لم يتغير!
ويزيد من “التسريب” فيضيف: إن الإسرائيليين يستخدمون تعبير “إعادة تمركز” علناً، إذ أنهم لا يعتبرون أن مجرد وجودهم في لبنان هو احتلال.
ويختم شماس “تسريباته” الخطيرة بالقول: علينا أن نتصدى بجميع الوسائل المتاحة لدينا!
… ولقد شاء قدر “السفير” أن تفترض أنها إحدى تلك الوسائل التي قد تفيد الوطن وقضيته، خصوصاً وإنها تنظر إلى المفاوضات مع العدو – وبغض النظر عن الموقف المبدئي – على إنها “حرب أخرى” معه.
وهكذا اعتبرت “السفير” أن نشر ورقة العمل الإسرائيلية التي وصلت إليها هو واجب وطني وقومي، بغض النظر عن التقنيات القانونية، وهل هي وثيقة أم لا، “سرية جداً” ومن الدرجة الأولى أم “سرية” فقط، وهل هي مما يجب أن يختزن في حرز حريز حتى يأكله الفار أو العث بحجة الحرص على أمن المفاوضات التي إن هي خرجت على الثوابت الوطنية فلن يبقى لبنان لتكون له وزارات وأسرار تحفظ في أدراج مصفحة!
أكثر من ذلك: لولا ذلك الإحساس العميق بالواجب الوطني والقومي لما نشرت “السفير” تلك الورقة – المسماة وثيقة سرية جداً – لأنها – بالمعنى المهني – لا تتضمن جديداً ولا تقول ما يختلف بحرف واحد عما سمعناه تكراراً ونسمعه كل يوم من تصريحات للمسؤولين الإسرائيليين حول لبنان وما يريده منه العدو.
وربما بسبب اللغط الداخلي الذي دار حول الورقة رجحنا كفة النشر، إذ لا يجوز أن يلتبس الأمر على أي مواطن فيفترض – كما حاول البعض أن يشيع – إن إسرائيل توشك أن تنفذ القرار 425 فتنسحب من لبنان، لكن “الضغوط السورية” على الحكم في لبنان تمنعه من القبول فتعطل بالتالي الانسحاب الموعود!
وغريب هذا المنطق الأعوج عند رئيس الحكومة الذي يرى في نشر وثائق رسمية لبنانية تكشف أدق الأسرار (محضر لقاء الدولة مع وزير الخارجية الأميركية في بعبدا) والموقف الرسمي من تلك الورقة الإسرائيلية، في حين يرى أن فضح أطماع العدو إنما تم بتسريب من لدن العدو ولمصلحته، ويستحق “مرتكبه” أن يردع بالتعطيل من دون محاكمة، وقبل المحاكمة، ربما حتى “لا يتورط” أكثر فأكثر في خدمة العدو!
لقد افترضنا أن النشر يخدم أمن المفاوضات، وقبلها أمن الحكومة اللبنانية وسمعتها. وقبل هذا وذاك أمن الوطن، كما أنه يؤكد إيماننا بوعي شعبنا الذي لا يمكن أن يقبل ما يمس بوحدته الوطنية أو بسلامة ترابه الوطني جميعاً.
وما زلنا على هذا الإيمان وسنبقى.
خصوصاً وقد ثبت أن شعبنا يريد الحقيقة الكاملة، ولا يقنعه التسريب الرسمي الذي لا يهدف إلا إلى اصطناع زعامة لمن لا يملك مقومات الزعامة، كما لا يقنعه ادعاء البطولة بالهجوم على دعاة الحرية والحق بالمعرفة والديموقراطية وحملة راية العروبة ومقاومة إسرائيل، من خلال اتهامهم بأنهم “ضحايا التسريب الإسرائيلي”.
إلى المحكمة إذاَ، نحن والقرار ومصدرو القرار.
أما الوطن والأمة فقد قالا كلمتهما، وشرفاً “السفير” بأروع حكم يتوّج تاريخها بأعظم ما تطمح إليه صحيفة في أربع رياح الأرض.
والسلام على من أتبع الهدى.

Exit mobile version