طلال سلمان

على الطريق “التحرير” بالبوق والهتيفة يحدّد طبيعة المشكلة والحل…

زعق “البوق” من خلف السترات الواقية من الرصاص: إن مسيرة التحرير مستمرة!
همدرت الجوقة المنظمة صفوفاً بحسب طبقات الصوت : بالروح ، بالدم، نفديك يا ميشال…
زعق “البوق” مجدداً من خلف سور البنادق والوجوه المذعورة: أميركا تضحك علينا، إنها تريدنا أن نصدق إنها عاجزة عن مساعدتنا…
همدرت الجوقة التي يقودها غراب صغير: يا ميشال لا تهتم، خلفك زلم بتشرب دم!
زعق البوق: اذهبوا إلى البطريرك المتخاذل فقولوا له…
همدرت الجوقة بلسان الغراب الصغير: ذهبنا فقلنا ونحن من هناك عائدون!
زعق البوق: اذهبوا إلى النواب فبلغوهم إنهم لا يمثلونكم!
نعق الغراب الصغير: ذهبنا فقذفناهم بأصوات متفجرة وها نحن هنا لنعلن إنك الممثل الوحيد!
زعق البوق: لقد استعدنا القصر وتوحد رأس السطلة مع جسدها!
نعق سرب من الغربان الصغار: الآن وقد هدمناه فقد صار ملكنا، أيها الرأي الذي لا ينكسر!
زعق البوق: اذهبوا إلى العالم فقولوا له…
نعق الغربان: ها نحن في الطريق إليه أيها القائد الملهم، وسنقول…
همد البوق، التف بالسترات الواقية، وتلفع بالبنادق المحشوة، واخترق الوجود المذعورة عائداً إلى الملجأ في الطابق الثاني تحت الأرض، في القصر الجمهوري ببعبدا، وجلس يخطط للمرحلة التالية من “حرب التحرير”!
من لم يمت بالقصف مات ضحكاً من “الضابط الصغير”.
حتى الثكالى واليتامى والأيامى والأرامل والمتصدعة منازلهم بالقصف التحريري “المجنون” ممن تيسر لهم من الكهرباء “المنزلية” ما مكنهم من تكحيل عيونهم بمنظر العماد خطيباً على مدخل القصر الجمهوري، أمس، لم يتمالكوا أنفسهم فابتسموا بحياء أول الأمر، ثم داروا ضحكمة قصيرة انفلتت من خلف بئر الأحزان، فلما امتد المشهد انفجروا بقهقهة عالية لأن “شر البلية” كان قد تجاوز حد المضحكات!
كان الجنرال في أكمل تكوين، بالحكم الطبيعي وبالألوان،
كان الجنرال بوقاً، مجرد بوق،
كان الجنرال صدى لصوت آخر بعيد المصدر “تكريتي” الرنين،
أما الجوقة فقد بدت في صورة “لمة” من الشبيحة وأبناء السبيل أتى بهم مخرج فاشل من أول زقاق صادفه، ولقنهم “الهتاف” على عجل واعداً كلا منهم بقنينة كازوز وسندويش وعلبة داخن وصورة في التلفيزون،
… لكأنهم ذاهبون إلى الحج والناس راجعة!
لكأن زماناً آخر قد بعث فجأة وبالمقلوب،
لكأنك تستعيد شريطاً قديماً بسرعة تحول التراجيديا إلى مهزلة فتضحك من منظر القتل وتبتهج لبراعة اللصوص وهو يسرقون وتغضب إذا ما وصل رجال الشرطة لأنهم يقطعون عليك المتعة المصطنعة عبر هرولة الممثلين الوقورين!
هكذا “تحرير” يلزمه هكذا “قائد” وهكذا “مسيرة” مكونة من هكذا “جماهير” وقيادات مرتجلة!
… ألا يكفي كل هذا سبباً لتدمير بيروت وسائر أنحاء لبنان، والعالم كله لو لزم الأمر، وهو سيلزم؟!
في بكركي، وفي الوقت ذاته، كان العقل يجد في شخص البطريرك صفير مكافحاً صلباً يذود عنه،
كان الصبية يزعقون من تحت بمقولات الجنرال – البوق “الخالدة”، فيرد البطريرك بلهجة فيها حزم القائد المسؤول عن رعيته والمرجع المطالب بأداء رسالة تساوي بين الناس جميعاً: لا نسمح لأحد بأن يملي علينا مواقفنا. إن لبنان لا يكون إلا بمجموع أبنائه.
ينعق الغربان دافعين الصبية إلى رفع الصوت بالزعيق التقسيمي، فيكمل البطريرك كلامه بثقة المؤمن: لا بد من إنهاء الأحوال الشاذة، لا بد من فتح المعابر وفك الحصار، لا بد من إسكات المدفع لأن لبنان لا يكون ولا يبقى إلا بالحوار والعقل والوحدة بين أبنائه جميعاً.
يسقط في يد الصبية وقادتهم الغربان فلا يجدون ما يقولونه غير ترداد الشعارات التي لقنوها: بالروح، بالدم نفديك يا عماد… ويا ميشال لا تهتم خلفك زلم بتشرب دم،
ثم لا يشربون غير الكازوز، بينما ميشال البوق يحقق طلبهم في عدم الاهتمام، فيدخل إلى الحمام ليبترد، حتى إذا هدأت نفسه وارتاح باله طلب “السيشوار”، وهو الشيء الوحيد الذي أورثه إياه أمين الجميل، فسرح شعره استعداداً للقاءات الرسمية مع السفراء الذي شتمهم ظهراً لأنهم يتعاملون مع غيره من السياسيين الساقطين والنواب الذين لا يمثلون أحداً والشخصيات التي صنعها الأجنبي!
الكلام بقائله، الكلام بمكانه وزمانه.
البوق يقول كلاماً انتهت مدته وسحب من الأسواق منذ زمان بعيد لأنه صار مصدراً للأذى،
البوق يقول كلاماً لغيره، وهو يستخدمه في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ ، فيتحول إلى نكات ممجوجة لا تثير أكثر من ابتسامة إشفاق على الذات والتاريخ الذي مضى وترك من الفراغ ما يسمح للبوق أن يشغل القصر الجمهوري!
للمناسبة: يبدو هذا القصر وكأنه مسكون بالجن!
لم يهنأ فيه رئيس، حتى إذا جاء دور أمين الجميل ضحى بالجمهورية كلها حتى يبقى له ويبقى فيه، ولو تحت القصف،
ومن عجب إن المزدحمين على بابه يتزايدون كلما ثبت لهم بالمحسوس إنه مصدر للخطر،
“قصر الموت” المتربع فوق تلة الربيع اللبناني الدائم لا يعطي اللبنانيين غير الدمار والبؤس والظلام الدامس والعطش وافتقاد الأمان والاطمئنان إلى غد، أي غد.
“قصر الموت الجمهوري” ولا جمهورية، فما الحاجة إلى الجمهورية قبل التحرير؟!
التظاهرات النقالة الرديئة التنظيم والمفضوحة الأهداف كشفت ما كان يراد له أن يظل مخبوءاً،
فمجموعات الصبية التي استخدمت أمس للإيحاء بأن “الشعب مع العماد” وليس مع البطريرك الماروني ومع النواب المسيحيين، ومع البيان الصادر عن لقائهم أمس الأول، إنما قالت نقيض ما يطرحه “الضابط الصغير” وزمرة المنتفعين بوجوده في القصر الجمهوري،
لقد ظهر جلياً للناس جميعاً، في لبنان، وخارجه أن “الضابط الصغير” لا يمثل إلا قلة قليلة من الموتورين والحاقدين بالوراثة أو بالتكسب أو بالاكتساب غير المشروع،
فقائد “مسيرة التحرير” المرفوض في المناطق “الخاضعة للاحتلال”، ليس مقبولاً في “المناطق المحررة”،
بل إن مشكلته أساساً في “الدويلة” التي افترض أنه انتزع قرارها من يد الشريك المضارب، “القوات”،
فلا هو يحظى بتأييد المراجع الروحية للطائفة المارونية،
ولا هو مقبول من النخبة المسيحية الجامعة لأصحاب الرأي والمصالح والممثلة لجمهورها الطبيعي.
إنه معزول في القصر المهجور يقود مسيرة وهمية في حرب فعلية ضد اللبنانيين جميعاً، في الشرقية والغربية وسائر المناطق.
إنه لا يملك ما يعطيه غير الموت والدمار وشطب المستقبل.
و”الشرقية” ليست جسداً بلا رأس، بل هي جزء حي من هذا الشعب، ناسها هم بعض الناس في لبنان، يشعرون مثلهم، يفكرون مثلهم ويعرفون مثلهم كيف يميزون بين الصح والغلط.
واللبنانيون شعب صغير بحيث يكاد يعرف كل منهم الآخرين معرفة شخصية، أو إنه يعرف عنهم ما يكفي.
قد تفرقهم الأهواء والميول والمصالح والمنازعات، لكن الثوابت والبديهيات والمقدسات واحدة لدى الجميع.
وهم يعرفون إن المشكلة، في هذه اللحظة ، ليست مع الخارج، إنها مع الذات،
واحتدام الصراع في “الشرقية” كما تبلور خلال اليومين الماضيين، يثبت إن المشكلة مسيحية أولاً، ولبنانية ثانياً، وسياسية ثالثاً وأخيراً،
إنها مشكلة قرار بين المسيحيين ، من يملكه وفي أي وجهة يستخدمه،
وهي مشكلة نظام بينهم وبين المسلمين: هل هو إقطاع الطائفة، أم هو توازن في المصالح بين الطوائف بما يحقق ولو الحد الأدنى من العدالة والمساواة بين اللبنانيين بوصفهم رعايا دولة واحدة إن لم نقل مواطنين فيها؟!
وهي مشكلة تتصل بالهوية والانتماء والدور والعلاقة بالأرض: هل نحن من العرب ومعهم أم نحن من الغرب وبالتالي مع العدو وعلى العرب سواء أكانوا سوريين أم فلسطينيين أم مصريين وليبيين أم كويتيين ويمنيين وصولاً إلى السودان والصومال وجيبوتي ذات الأبراج؟!
ولن يجيئنا الحل من الخارج ولن يجيئنا بالتأكيد عبر إعلان الحرب على سوريا التي يمكنها ، إذا ما اتفقنا، أن تلعب دوراً إيجابياً، ولا غنى عنه في حماية اتفاقنا، ويمكننا متى اتفقنا أن نحدد طبيعة علاقتنا معها وحدود هذه العلاقة في المستقبل.
فلبنان باق، وسوريا كذلك، أما البوق فإلى زوال،
فالجنرال – البوق جبار ، ولكنه أعجز من أن يغير التاريخ والجغرافيا وحقائق الحياة،
و”الزلم الذين يشربون الدم” خلفه ، ثم يطلقون هتافهم “بالروح، بالدم نفديك يا ميشال” لن يترددوا أبداً في تغييير اسم “المفتدى” إذا ما توفر من يدفع مزيداً من الغروش!
والمهم ألا نضيع، نحن والأخوان العرب، توصيف المشكلة وبالتالي توصيف حلها كما حددها وحدده بيان النواب المسيحيين في بكركي وبرعايتها، يوم الثلاثاء الماضي،
… للمناسبة، لماذا لا يكلف النائب ادمون رزق بالذهاب إلى تونس، باسم لقاء بكركي، وبتأييد من اللبنانيين عموماً، ضحايا القصف المجنون والسلوك المجنون، والذين برغم كل شيء لم يفقدوا عقولهم ولا وطنيتهم ولا حبهم لأطفالهم وللورد والربيع والسلام والأحلام السنية؟

Exit mobile version