طلال سلمان

على الطريق البيان التأسيسي الرقم 2

مرة أخرى، وكما عند كل محطة من محطات الحرب الأهلية المتفوحة، تبرز تلك المفارقة الراسخة في الحياة السياسية اللبنانية والمتمثلة في الانفصام الكامل بين أسباب الحرب وشعاراتها المعلنة وبين اهتمامات الطبقة السياسية وحركتها وطريقة تصرفهاز
فأسباب الحرب المعلنة تتصل، بهذه النسبة أو تلك، بهموم الناس وطموحاتهم وتطلعاتهم، ولو على أساس طائفي، إلى وضع أفضل، وأحياناً إلى وضع محدد.
أما الطبقة السياسية فتتابع مسيرتها المظفرة ، بتفاصيلها إياها، مع تنبه لاتجاهات الريح بحيث لا يباغتهم جديد ولا يقتحم ناديهم طارئ يحدث خللاً في أصول اللعبة التي احترفوها حتى الثمالة… فإذا حدث واضطروا إلى التسليم بوافد غير محسوب تفرضه طبيعة التوازنات أو التحالفات المستجدة والاضطرارية والمؤقتة (غالباً) تعاملوا معه وكأنه ضيف ثقيل لا بد من قبوله خضوعاً لقاعدة “دار الفلك صار الجحاش” الملك ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وها نحن نشهد فصلاً جديداً، قد يكون الأكثر إيلاماً من فصول الانفصام بين الناس وبين من يفترض أن يكونوا الزعماء التاريخيين والقادة السياسيين وكذلك أولئك الآتين من المستقبل وباسمه.
فالناس يتساءلون عن أسس الحل، عن مشروع الصيغة العتيدة وهل تم الوصول إلى توافق فعلي حوله أم لا يزال معلقاً، ثم عن مدى التناسب بين الحل وبين الثمن المدفوع بالدم والرزق، ويحاولون أن يستشفوا ملامح الغد القريب وما بعد وجل همهم أن يعرفوا : هل الهدنة طويلة أملاً؟! وهل هي بالأسابيع أم بالشهور، أم تراها حلم ليلة ربيع فحسب؟!
أما السياسيون بمن فيهم التقليدي والمجدد والمستجد وصولاً إلى الأغرار، فتراهم قد انغمسوا في لعبة التشكيل وكان البلد بألف خير وإنه لا ينتظر غير أن يتسلموا هم مقاليد الأمور فيه حتى تنتهي مأساته وتتدفق أرضه بالخير واسباب العمران… وكيف يكون الغد الأفضل إن لم يكنهم؟!
بإحصاء بسيط يمكن القول براحة ضمير، الآن، إن حوالي ألف رجل على أقل تعديل، يشغلون أنفسهم ومن حولهم بحديث محوره أهليتهم للوزارة.
فإذا كان ثمة ممثل لكل قطب، وما أكثر الأقطار وما أكثر الممثلين خصوصاً في المواسم الوزارية، فهذا يشمل بضع عشرات من “الوجوه الجديدة”، إضافة إلى مئات الوجوه المعروفة من الرجال المدربين والمجربين، حتى لا ننسى السادة النواب، ثم هناك المراهنون على احتمالات التضارب والفيتوات المضادة، و”شيلني وأشيلك وأنا برضه فرحت لك”، وأخيراً، يجيء طابور أغنياء الحرب وتجار السلاح ومسروقات الحرب، إضافة إلى نماذج كتلك التي اكتشفها الحكم واستقدمها من آخر الدنيا لتساعده في “مغامرة الإنقاذ” فكادت تقضي عليه وعلى البلاد والعباد الخ…
ومن أسف إن بين هؤلاء العديد من الشباب الواعد، ممن كانوا يعتبرون عدة المستقبل والرصيد المدخر ليوم الشدة، ففيهم الكفاءات التي عادت بشهادات عليا من جامعات محترمة في العالم، وفيهم من هو ناجح في مجالات المال والأعمال ، وفيهم الطبيب القدير والمهندس الفذ والمحامي الملامع وحتى بعض النهابهين من أساتذة الجامعة،
الكل مصاب الآن بالدوار،
والكل مهووس برنين التلفون، حتى ليظنه يدق أبداً، أو إنه يمضي وقته على السماعة، يستنفر الصداقات، ويدس على الخصوم، ويسرب من الأخبار ما يؤذي المنافس ويساعد على حصر الخيار بشخصه الكريم عملاً بقاعدة “الغ غيرك توزر أنت”.
ويا ليت الهوس مرتبط بقضايا الناس وهمومهم والمسائل المصيرية المطروحة كمثل تحويل الكيان إلى وطن ورعايا الطوائف إلى مواطنين، وإزالة الأسباب العميقة للحرب الأهلية، ثم الالتفات إلى نتائجها المدمرة من التهجير والمهجرين إلى الخطف والمخطوفين والمفقودين، إلى الضحايا ومن خلفوا وراءهم من ضحايا، إلى المدن والقرى المدمرة، إلى الأزمة الاجتماعية الخانقة والتي تنذر بانفجار لا يبقي ولا يذر، إلى الوضع الاقتصادي المتهالك الذي تلخصه حقيقة إن البلاد ، دولة ومؤسسات وشعباً، على وشك الافلاس.
يا ليت التطلع إلى الوزارة ودخول جنة الحكم كان مرتبطاً ببرنامج سياسي محدد، يكون قاعدة الترشيح والتوزير ومن ثم المحاسبة،
ويا ليت التطلع كان وليد الاحساس بالقدرة على إنجاز ما لم ولن ينجزه الآخرون سواء في مجال ابتداع الصيغة أو في إرساء أسس إعادة البناء وإطلاق عملية الإنماء الوطني الشامل،
وقبل هذا كله: يا ليت التطلع، إلى الحكم وهو حق مشروع لكل مواطن كان مرتبطاً بمشروع واضح لحشد القوى وتعبئة الطاقات من أجل تحرير المحتل من أرض الوطن في الجنوب والبقاع الغربي وصولاً إلى إقليم الخروب والطريق الساحلي الذي يمتد وريداً من بيروت المحاصرة إلى أبناء الوطن المقاتلين والصامدين في مناطقهم المعزولة والمتروكة بمواجهة قدرها مع العصابات التي أنشأتها ورعتها ودربتها إسرائيل وأعدتها لمثل هذه المهمة القذرة التي تمارسها اليوم ضد شعبها.
وهكذا تكتمل الحلقة المفرغة: ليس للحكم برنامجه الوطن الشامل،
أما المعارضة فقد أمكن التخفيف من طابعها الوطني العام تمهيداً لتحويلها إلى معارضات قوامها حقوق الطوائف وممثلوها بالتالي الأكثر تعبيراً عن الواقع الطائفي،
وبدلاً من أن يتركز جهد المعارضة على تأمين وحدتها من خلف برنامج وطني يعبر عن مطامح الناس ويلبي احتياجات البلاد، يتحول هم الوطنيين من قياداتها وهيئاتها إلى ضمان عدم غرقها بمجملها في المستنقع الطائفي وإبقاء ما تيسر من العناوين الرئيسية لخطوط عريضة كانت ستصبح برنامجاً لها لو قيض لها أن تنصرف لوضعه ودفعه إلى الناس راية وسيفاً في خدمة أهداف نضالهم المشروع.
والمهم الآن استنقاذ ما يمكن استنقاذه من البرنامج المفترض للمعارضة وتحويله بالجهد إلى برنامج وطني للحكم،
فالبرنامج أهم من الحكومة، بل هو أهم من الحكم نفسه،
البرنامج تصور، هو أقل من الحكم وأعظم من قدرات الأمر الواقع، أو هو صياغة لمستقبل الوطن، وتحديد للمهمات والواجبات والأعباء والمسؤوليات، بما في ذلك مهمات الحكم والحكومة وهو الذي يجعلنا نتوقع “حكم حكومة” لا “حكومة حكم”،
وكنا وما نزال نأمل أن يعمل أصحاب المطامح والتطلعات وكلهم من الكفاءات من حيث المبدأ والشهادات، على التخفيف من الطائفية التي ستفرض نفسها على برنامج الحكم وصورة مستقبل البلاد،
ولكن مثل هذا الجهد يفترض أول ما يفترض أن يقدموا البرنامج المفترض على أشخاصهم، لا أن يؤخروا أشخاصهم بكل كفاءاتهم وشهاداتهم وخبراتهم وأموالهم، إلى خلف ممثلي الطوائف.
أما في غمرة انشغالهم، بأشخاصهم وبالحقائب فلسوف يجدون في مقاعد الوزارة، إذا ما وصلوا، نتفاً باقية من أحلام الشباب، ووقائع قاسية قادرة على التهام الطموحات والآمال العراض وصورة الوطن – الحلم، وكل ما يبرر الانصراف إلى “النفع الخاص” طالما إن “النفع العام” متعذر أو مستحيل.
في أي حال ثمة فرصة أخيرة بعد: أن يكون برنامج الحكومة العتيدة هو البيان التأسيسي الرقم 2 لدولة اسمها لبنان، بعد البيان التأسيسي الرقم واحد الذي استطاع الصمود لأربعين سنة تقريباً فأبقى الكيان ولم يحقق الوطن.
ونتمنى أن يوفق الرئيس رشيد كرامي في صياغة مثل هذا البيان، خصوصاً وإنه يعرف جيداً – بالخبرة الشخصية كما بالارث – لماذا أسقطت دولة البيان الأول ومتى وأين… ودور الطبقة السياسية ومسؤوليتها عن هذا السقوط المريع!

Exit mobile version