طلال سلمان

على الطريق البطريرك الماروني ومصادر الخطر!

“نعم، هنان خطر على المستقبل”…
ولأن هناك خطراً على المستقبل فقد قصد البطريرك الماروني إلى قصر بكفيا،ولكنه – على ما يبدو – لم يجد ما يطمئنه فخرج يجهر بمخاوفه… وعلى الهواء مباشرة!
وفي الكلمات القليلة التي أدلى بها البطريرك نصر الله بطرس صفير تزاحمت مشاعر الخبة والإحباط والقلق:
*فمن غير الممكن تحديد وقت تجري فيه انتخابات الرئاسة.
*ولا جدوى من قمة روحية في الوقت الحاضر،
*وليس لدى رئيس الجمهورية موقف من شأنه أن يبدد القلق، فلا يبقى غير التوكيد على الإرادة بأن يكون هناك انتخاب، وأن يكون رئيس جديد للبلاد، وأن تجري الأمور في مجراها الطبيعي،
… ولأن هناك خطراً على المستقبل، فقد دعا البطريرك صفير النواب الموارنة إلى اجتماع في مقره ببكركي للتشاور في ما يمكن عمله لمواجهة هذه الأيام الصعبة ومخاطرها المصيرية.
أما واشنطن التي “تتخوف دوائرها المسؤولة” من احتمال تعذر إجراء الانتخابات الرئاسية قبل 23 أيلول المقبل، فإنها “تطمئن” اللبنانيين سلفاً إلى أنها تخشى ألا تكون قادرة على تقديم الكثير لهم، إذا استمر الموقف السوري من تأييد الرئيس سليمان فرنجية.
أي إن واشنطن تؤكد ما عبر عنه البطريرك الماروني من أن هناك خطراً على المستقبل وتؤكد أيضاً إنها لا تستطيع منعه!!
ولكن ما لا تعلنه واشنطن، صراحة على الأقل، ما يتصل بمسؤوليتها المباشرة عن الخطر الذي يتهدد مستقبل اللبنانيين ووطنهم الصغير!
… مع إن واشنطن لم تتورع عن إصدار “أمر عمليات” فج بصراحته لنسف النصاب وتعطيل الانتخاب في الجلسة النيابية التي كانت مقررة لهذه الغاية يوم الخميس 18 آب،
ولا هي تجرجت في إشهار الحرم في وجه بعض المرشحين ممن يتوسم فيهم اللبنانيون، أو نسبة كبيرة منهم، القدرة على التعاطي مع أزمتهم الخانقة.
ولا هي تحرجت، بالمقابل، في تزكية مرشح معين وإلباسه ثوب المنقذ، مع معرفتها المسبقة بأن صورته في عيون اللبنانيين لا تعطيه مثل هذا الشرف،
ثم إنها لم تجد حرجاً في أن يتطابق موقفها مع الموقف الإسرائيلي، وبالتالي مع موقف جماعة متطرفة تتحكم عنوة بقرار فئة عريضة من اللبنانيين وتمنعهم من التعبير عن رأيهم الذي قد لا يكون مؤيداً بالضرورة للرئيس سليمان فرنجية.
… وصولاً إلى العرض الخاص والطريف الذي لم تتحرج واشنطن في تقديمه لهذا المرشح المعلن عليه الحظر، بوصفه خطاً أحمر، سليمان فرنجية، بأن يتخلى عنها لابنه فتنتصر الديموقراطية ويسلم النظام ويبقى الكيان.. عاش لبنان!
من أين يأتي الخطر؟!
في أيام الاضطراب، هذه، تتزايد الاجتهادات والتحليلات والتفسيرات، ويضيع الناس في التفاصيل ويعمي غبار المعارك الوهمية، والأخبار المدسوسة، عيونهم وتطمس صورة الوقائع الخطيرة في ذاكرتهم المتعبة بثقل ما تأتيهم بهم الأيام.
من هنا تنشأ الضرورة إلى تنشط الذاكرة، وإعادة التركيز على نقاط التحول والانحراف ومواضع الخلل التي أدت بلبنان إلى حيث هو اليوم: في مواجهة الخطر المصيري.
وفي مجال التذكير لا بد من استعادة بعض الحقائق ومنها:
*إن لبنان ما بعد 1982 يراد له أن يكون غير لبنان الذي عرفه أبناؤه وارتضوه وطناً، برغم ملاحظاتهم الأساسية على نظامه المعتل وصيغة الحكم الظالمة للأكثرية الساحقة من اللبنانيينز
ولقد وقع بعض القيادات السياسية في فخ الشعار الإسرائيلي “ممنوع العودة إلى ما قبل 1982” بذريعة إن المعني بالشعار هو “فوضى السلاح الفلسطيني”،
بالمقابل فإن الانقلاب الكتائبي الذي تم كنتيجة مباشرة للغزو الإسرائيلي يحاول أن يحاصرنا ويحصرنا في أمر واقع عنوانه: ممنوع الخروج من نتائج ذلك الغزو، واغتصاب الكتائب للسلطة في العام 1982.
لكأنما يراد لنا أن يبدأ تاريخنا (الحديث) وينتهي في وقائع ذلك الصيف الأسود من العام 1982.
فهل هناك من مصدر للخطر أعظم من الغزو ونتائجه وبينها الحكم القائم ومحاولات إدامته (بالتحديد أو بالحكومة المؤقتة، أو بضمان الخلف العاقل الذي لا يفتح ملفات الماضي الخ) ولو أدى ذلك إلى تعطيل الدستور ومنع انتخاب رئيس جديد ودفع البلاد نحو الهاوية بتجديد الحرب الأهلية وتسعيرها بحيث لا تبقي أحداً ولا شيئاً؟!
*إن حكم الانقلاب الكتائبي قد نسف ركائز الوحدة الوطنية بمسلسل حروبه على الطوائف والمناطق والقوى السياسية، وهي الحروب التي أدت إلى عزلته شبه الكاملة، بحيث أمضى رئيس الجمهورية سنتيه الأخيرتين في قصر بعبدا عاطلاً عن العمل… ولم يعوضه في شيء استعراض طوابير الشرف في العواصم العربية العديدة التي زارها النقص في شرعيته وفي قدرته على ممارسة صلاحياته الهائلة التي تزيد على صلاحية الأباطرة وشاه إيران المخلوع!
*إن حكم الانقلاب الكتائبي قد أضفى “شرعية ما” على الاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي اللبناني وذلك حين اندفع بحماقة نادرة المثال إلى عقد اتفاق 17 أيار.
وصحيح إنه قد اضطر إلى التراجع، من بعد، وبقوة المقاومة الوطنية والعربية لهذا الانحراف، لكن الاندفاعة نفسها خلخلت ركيزة من ركائز التسليم العربي بالكيان اللبناني، فصار شرطاً على الرئيس الجديد أن يكون من أهل الثقة ممن يطمئن العرب (وسوريا أساساً) إلى أنه لن يطعنهم في الظهر، ولن يخرج عليهم ملتحقاً بالعدو الإسرائيلي.
*إن حكم الانقلاب الكتائبي متشجعاً بالهجوم الأميركي (الإسرائيلي) المتجدد على المنطقة، مع تركيز واضح على سوريا ودورها في لبنان، يتصرف علناً بما يدفع لبنان نحو لجة الفراغ الدستوري، أي الكهول، مفترضاً إنه المستفيد الأول منه في الحالات جميعاً:
-فهو قد يكون “مالئ الفراغ” بقوة الأمر الواقع، وعبر حكومته الانتقالية العتيدة،
-وهو قد يستعيد اعتباره، عبر الواقع التقسيمي الذي قد ينشأ، والذي قد تتورط في توطيده قوى سياسية عديدة، بعضها يجهر بمعارضته للعهد وسياسته، وهكذا يصبح متهماً في جملة متهمين عن جريمة لم يمنعها أحد…
*إن حكم الانقلاب الكتائبي قد تصرف وكأنه مصدر الشرعية، فأعلن “الفيتو” على مرشح معين ومنح بركة تأييده لمرشح آخر، فنقل النقاش حول “شرعيته” هو، وحول “محاسبته” هو عما جنته يداه خلال هذا العهد الميمون، وكأنما هو بين عوامل الحل وليس سبباً للمشكلة.
أكثر من هذا: لقد حرض حكم الانقلاب الكتائبي العديد من “الوجهاء” و”الأثرياء” على ترشيح أنفسهم، واعداً كلا منهم بتأييده، فلما فوجئ الناس بهذه الغابة من المرشحين تاهوا فيها وغرقوا في المفاضلة بين طابور المسترئسين الذين لم يكتشفوا في معظمهم كفاءة مميزة فتحسنت صورة العهد القائم لأنه “ليس أسوأ من المحتمل وصولهم”.. خصوصاً وقد أجبن هؤلاء عن تحديد مواقفهم بصراحة من أسباب الأزمة، وبينها حكم الانقلاب الكتائبي وإنجازاته.
واليوم يتعاطى كثير من الساسة و”الفعاليات” والمتسلقين والوصوليين والخائفين من فتح الملفات، وكأن العهد القائم عهد عادي ينتهي بنزول رئيسه عن سدة الحكم، متناسين طبيعته كانقلاب، ومتناسين كيف وبقوة من وفي أية ظروف وصل، ومتناسين أخيراً إنه كان أحد مصادر الخطر على لبنان وسيبقى كذلك طالما استمر في “احتجاز” السلطة والشرعية والاستحقاق الدستوري.
بهذا المعنى فإننا نأمل أن يكون لقاء الغد في بكركي خطوة على الطريق الصحيح،
فلا بد من تحديد مصدر الخطر الذي يتهدد لبنان،
ولا بد من تحديد المسؤول عن هذا الواقع المريع الذي نعيشه،
ولا بد من تحرك جدي في اتجاه الخروج من العصر الإسرائيلي الذي يحاصرنا، بعد، عبر حكم الانقلاب الكتائبي.
لا بد من “التوافق” على إعلان نهاية الغزو الإسرائيلي للبنان، بكل نتائجه السياسية والعسكرية، وأبرزها وأخطرها حكم الانقلاب الكتائبي الذي طرح جدرة “الطائفة” بالرئاسة على بساط البحث، بل وطرح مصير لبنان كله في مهب الريح.
وعبر هذا “التوافق” على جوهر المسألة السياسية في لبنان يمكن الوصول إلى رئيس جديد لعهد جديد في نظام جديد للبنان… العتيق!
فالمسألة تتجاوز الشخص وممارساته،
إنها، مرة أخرى، هوية لبنان، ودوره، وهي طبيعة النظام و”حقوق” المواطن (بل الإنسان) فيه،
ونرجو أن يتذكر غبطة البطريرك أن من يرفض لنفسه موقع مواطن من الدرجة الثانية لا يجوز له أن يقبل ببقاء أكثرية شعبه المطلقة في الدرجة الثالثة أو الرابعة،
فمثل هذا الواقع مصدر دائم للخطر ليس فقط على الرئاسة والنظام، بل وعلى الكيان ذاته.

Exit mobile version