طلال سلمان

على الطريق البراءة تدافع عن نفسها…

صباح الخير، ثالثة، من بيروت – المساء التي قدّر عليها أن تستضيفني أياماً (؟) مع عدد من زملائي في”السفير”وافتتاحيتي “على الطريق”،
… وبيروت تتكشف، برغم جراح الحرب وبشاعة الإسمنت وسماجة الخروج على أي تنظيم مدني، عن”جمال” غامض مثير مبعثه روحها لا عمارتها، ودورها وصورتها في أ حلام اللبنانيين وسائر العرب وليس في واقعها البائس.
عبر الشارع الذي كان يحمل اسماً لموقعة أجنبية (فردان) لا علاقة لنا بها إلا من موقع الجائزة للمنتصر، والذي أعطي مؤخراً اسم شهيد للوطن والأمة هو رشيد كرامي إلى “كورنيش المزرعة” وهو الاسم الذي ظل غائباً على “بولفار” رئيس آخر سابق للحكومة، صائب سلام، فإلى امتداده الشهير باسم “فؤاد الأول” برغم أنه فتح كوسام بعد الوفاة لرئيس ثالث سابق للحكومة، المرحوم عبد الله اليافي.
إلى اليمين ميدان سباق الخيل الذي يجسد هوس اللبناني بالمقامرة والمراهنات ومحاولة اصطياد المال بالحظ أو بالمصادفة، وإلى اليسار المبنى المهيب للمحكمة العسكرية، ثم ذلك القصر الذي حولته الحرب إلى مقر مؤقت للبرلمان، وغير بعيد عنه المبنى الأشوه الذي استعجل إنجازه بالحديد والزجاج على خط القصف حتى لا تضيع فرصة الصفقة على المسؤول المقاول ومقاول المسؤول،
نصب الجندي المجهول فقد رمزيته وهجره أهله بعدما اختلط في اللبناني المقتتل مع ذاته الشهيد والجلاد والضحية وباعة الأجداث ولو فارغة،
المتحف إلى اليمين: إنجاز معجز، كتحفة معمارية بكل آثار القصف والنسف للنهب والقنص لتأمين جو هادئ “للشركة المساهمة” لسرقة الكنوز الأثرية اللبنانية وتعميمها على أربع رياح الأرض حتى لا تظل فيه زاوية معتمة لافتقادها إلى الإشعاع اللبناني.
هنا كان خط الموت الذي اتخذه الغزو الإسرائيلي سوراً لمحاصرة بيروت ثم خط هجوم على الصامدين فيها.
كم من الصفقات المشبوهة عقدت هنا، أو مرت من هنا؟!
خط الموت كان هو بذاته “الكنز”، لا يرسل إليه ليحرسه إلا أصحاب الحظوة الذين سيقدر لهم في غد أن يصيروا “وجهاء” و”رجال أعمال” يغطون بالمال الناضح بدم الأبرياء تاريخهم الأسود..
ما علينا، فنحن مجرد متهمين بجرم خطير نقصد قصر العدل لننال جزاءنا!
التداعيات منهكة، والمقارنات مفزعة ، لكن أياً من أولئك المسؤولين عما كان (وكثيرهم مسؤول عما هو قائم) ليس مطلوباً للعدالة، ولم يمكن أي قاض من استجوابه فضلاً عن توجيه التهمة إليه،
قتل الفقراء، ومواطن الفقراء، قيدت جميعأً ضد مجهول، ربما لعد كفاية الدليل.
ما علينا، فأولئك جرائمهم سياسية، وقد شملهم العفو العام، السفاح منهم واللص، المسترئس بقوة الحراب الإسرائيلية، والمستقوي على شعبه بمدافع جيشه وبعض “الحلفاء”، من دون التدقيق في هويتهم أو في أغراضهم النبيلة،
للمناسبة: لكم كانت المساعدات “العربية” غزيرة حين كان القرار بإشعالها حرباً أهلية عربية في لبنان لا تبقي ولا تذر!
صحيح أن القرار أجنبي، لكن مصدر المساعدات ظل “عربياً” حتى لو وصلت بالدولار الأخضر!!
قصر العدل عاد، أخيراً، قصرا للعدل،
لقد جعلوه ثكنة عسكرية، وتناوبت عليه قوى الحرب ثم اتخذته بعض قيادة الغزو الإسرائيلي مقراً ومهجعاً لجنودها ومربضاً لمدافعها الثقيلة،
لكنه الآن، مثل بيروت، يستعيد روحه ولغته ودوره، ويمسح آثار الماضي الأسود بتشوق أهله وقاصديه إلى عودة الدولة وسيادة القانون.
في قاعة نقابة المحامين، وعشرات من الشبان يخطرون بالروب الأسود، ينفضون عن أنفسهم كما عن المبنى ووظيفته تراكمات الحرب وندوبها،
“السفير” هنا : الكل محام لـ “السفير”،
تدافع المتطوعون يريدون المشاركة في شرف الدفاع عن قضية الحرية.
لا ضرورة للمعرفة الشخصية، لا ضرورة لأن يكون هؤلاء جميعاً من قراء “السفير” أو من المؤمنين بسلامة خطها السياسي.
الكل يريد أن يكون في موقع الدفاع عن حق المواطن في أن يعرف، وعن حقه في أن يختلف مع الحاكم، كائناً من كان، الاعتداء على الحرية خطأ، وعلينا أن نوقف هذا الخطأ.
القاعات فسيحة، والردهة المنداحة ترجع جنباتها صدى الحركة النشطة ووقع الأقدام المتعجلة تقويم المعوج وإصلاح المغلوط أو المختل من الأوضاع.
“تقوم الأوطان حيث هناك عدالة..”.
و”المطلوبان” من جنود “السفير”، فيصل سلمان وإبراهيم الأمين، يتنامى شعورهما بالاعتداد بالنفس والمهمة مع تكاثف حرارة المتضامنين معهم..
وراءهما تاريخ “السفير”: عشرون ربيعاً من الجهد من أجل وحدة الوطن وعزته، من أجل كرامة المواطن وحقه في حياة لائقة، من أجل العدالة والمساواة.
… عشرون ربيعاً من مقاومة العدو الإسرائيلي بالكلمة، بالفكرة، بالرأي ، بالصور، بالكاريكاتور المشع، بتوسيع دائرة الوعي بأطماعه ومحاولاته اختراق النسيج الاجتماعي ولعبة على التمايزات الطائفية والمذهبية.
عشرون ربيعاً من التفاني لتوكيد صدقية الشعار: صوت الذين لا صوت لهم.
استقبلتنا ابتسامة مدعي عام التمييز منيف عويدات، قبل يده الممدودة بالتحية: أهلاً وسهلاً بـ “السفير”.
التمعت العينان الذكيتان ببعض ما يحتشد في ذلك الذهن اليقظ الذي يختزن أخطر الأسرار، وهو يعرفنا بمن كان في مكتبه البسيط: قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان فوزي داغر، رئيس الهيئة الاتهامية في بيروت زاهي كنعان، مدعي عام استئناف بيروت فوزي أبو مراد… ولم يكن بحاجة لأن نعرفه على صحبنا: نقيب الصحافة، نقيب المحررين، والمحامون بطرس حرب وفؤاد شبقلو وأدولف تيان من مكتب المستشار القانوني لـ “السفير” الدكتور حسن عواضة،
ها هما التوأمان يتكاملان: الصحافة لسنان حال الأمة والقضاء ترس العدالة فيها. لا انفصام بين الحرية والعدالة، بل إنهما متلازمان متى غاب أحدهما سقط الآخر حكماً.
متى انفصل الزند عن الكتف؟! متى انفصل الصوت عن الحنجرة؟ متى انفصل القلب عن الرئة؟!
السلطة الثالثة والسلطة الرابعة تتعانقان فتحصن كل منهما الأخرى، وتعزز كل منهما نفسها بقوة أختها – التوأم. هما السيف والترس. السارية والراية. وهما مظهران لتحضر المجتمع وقوة دولته بكرامة مواطنها وإرادته الحرة.
إلى التحقيق… يحف بنا التهيب. المجاملات لا تبدل من طبيعة الأمر.
عند قاضي التحقيق الأول سعيد ميرزا، والرأس المشتعل شيباً يوضح نسبه إلى الجيل المخضرم، وثقته بكفاءته تنضح بها تصرفاته المحسوبة، وإن كانت لا تغيب دماثة خلقه.
لأمر ما اقتحمنا ذلك الشعور بالطمأنينة. وبأننا طلقاء أحرار، ونحن نمثل أمامه.
التهم خرساء، والأجوبة بسيطة جداً قاطعة بوضوحها، تنطق بغير لسان، إنها تفرض حضورها الباهر من دون حاجة إلى الفصاحة.
كيف ترد “السفير” عن نفسها تهمة مثل تعكير علاقات لبنان بالدول الأجنبية والمعنية – هنا – هي دولة العدو إسرائيل؟!
اللافتة التي تتصدر القاعة هي الأفصح: “البراءة تدافع عن نفسها”،
ولكن لماذا اضطرار البراءة للدفاع عن نفسها؟!
لماذا نشر ما اعتبر “وثيقة”؟!
-لأنها تفضح النوايا الإسرائيلية التي تريد أن تأخذ اسماً ما لم تستطع أن تأخذه بالاجتياح والحصار ودك معالم الحضارة في عاصمة الفكر العربي، وواحة الديموقراطية وعلى النمط الغربي!
كان الاستجواب واضحاً ومبسطاً. لا مهاترات ولا كمائن، ولا محاولات لاصطياد كلمة أو زلة لسان. القاضي ضمير على هيئة بشر سوي. لا مجال للاشتباك، “السفير” حاضرة بكل تاريخها ورصيدها، والتقدير متبادل. هي من ضمن الصحافة تعمل مثل القضاء كقيم للعدالة من أجل وطن حر ومواطن كريم.
تم توقيع الأوراق، وكان الوداع أكثر وداً من الاستقبال، وخرج “المتهمون” كما القاضي، منتصبي القامة، مرفوعي الهامة لتستقبلهم تظاهرة عفوية جمعت عناصرها القضية: محامون، متقاضون، رجال أعلام، عابرو سبيل وفضوليون لكنهم معنيون بجوهر المسألة.
في طريق العودة كنا أعظم ثقة بالغد: لا دولة حيث لا قضاء، لا وطن حيث لا حرية، لا حرية حيث لا صحافة، لا صحافة حيث لا معارضة.
والأهم: في حالة لبنان فلا دولة إذا لم تكن إسرائيل هي العدو.
بهذا نؤمن، ونحن اليوم أعظم إيماناً.
وسلام على من أتبع الهدى..

Exit mobile version