طلال سلمان

على الطريق الانقلاب الذي خسر النظام والمواطن..

عندما تسنم حزب الكتائب سدة السلطة، في الظروف المعلومة إياها كان ذلك قراراً بإسقاط آخر ما تبقى من “لبنان” القديم، لبنان الذي كان، لبنان الأغنية والصحيفة والوردة والمصرف والجامعة والكتاب والمصيف والسبق في التقدم، وأيضاً لبنان التسوية المقبولة بين مختلف الأطراف ، دولياً وإقليمياً ومحلياً، سياسياً وطائفياً.
لقد اكتمل “الانقلاب” الذي يعتبر البعض نقطة بدايته في 5 حزيران 1967، ويرى بين محطاتها البارزة نشوء الحلف الثلاثي (العام 1968)، وهم العام الذي بدأت فيه الكتائب إعداد ميليشياتها المسلحة وتحضيرها لما سيكون في المقبل من الأيام (من مقابلة غير منشورة مع قطب كان بارزاً في الحزب وهو اليوم أشد بروزاً…)
فالحلف الثلاثي كان انقلاباً قامت به داخل “المارونية السياسية” الأجنحة والاتجاهات الأكثر تطرفاً سواء في عدائها للعروبة (في الداخل أو في الخارج) أو في نظرتها إلى النظام اللبناني وطبيعته الطائفية، وكان منطقياً من ثم أن تشتد الصراعات داخل معسكر هؤلاء المتطرفين أنفسهم – عبر الانعكاس المباشر لسياق الأحداث التي شهدها لبنان على امتداد السبعينات – ولا تنتهي إلا بالحسم العسكري وسيادة الأكثر عدائية وتعصباً ورفضاً لنموذج لبنان – التسوية السياسية الداخلية والإقليمية.
ومن رحم هذا الاتجاه تحديداً ولدت “القوات اللبنانية” وزعيمها الراحل، وعبر محطات بارزة بينها زغرتا والصفرا والأشرفية لتكريس الهيمنة المطلقة داخل الصف الواحد، ثم للانطلاق لفرضها على الطرف الآخر، مفيدة من “تحالفها” البائس على العدو الإسرائيلي مفترضة إنه سيقدم لها حكم لبنان الـ 10452 على طبق من فضة.
وكان ما كان في أيلول 1982 وذهب بشير الجميل وجاء أمين الجميل مستحضراً صورة “الحزب” وليس “القوات” المهجنة لتكون التعبير الأصرح عن “المارونية السياسية” في طورها الجديد.
على إن منطق “الانقلاب” بما يعنيه من هيمنة كاملة على السلطة والبلاد وعبر صفقة مع الإسرائيلي كان ما يزال هو السائد، ولعله كان أقوى من أمين الجميل ذاته، ولعله ما يزال الأقوى بدليل استمرار العجز عن عقد تسوية جديدة في إطار تقاليد المارونية السياسية موديل 1943 المنقحة والمزيدة في طبعتها موديل 1958.
ولأن “الانقلاب” جاء من طبيعة طائفية فإن رد الفعل عليه كان من الطبيعة ذاتها، فالطائفية تستسقي الطائفية والوطن هو المغدور.
لقد حوّر تسلم الكتائب في طبيعة النظام ذاته فجعله أكثر تحجراً وأكثر تخلفاً وأكثر عداء للإنسان…
صحيح إن النظام كان يرتكز إلى أسس طائفية هي التي تعهدها الجميع بالرعاية ليبقى لبنان كياناً فلا يتحول إلى وطن لكن الصحيح أيضاً إن طائفية النظام هذه كانت مضبوطة بتسوية من طبيعة سياسية تضع سقفاً للاتجاهات المتعصبة فتجعلها مرذولة في بيئتها ذاتها وتمنع امتداد آثارها المدمرات إلى البيئات الأخرى.
وفي ظل قانون التسوية السياسية للعلاقات بين الطوائف مع تمييز معترف به للمارونية السياسية هو في صلب هذا القانون، كان ممكناً للنظام أن يقبل شيئاً من التطوير على شكل تعديلات في بعض مواقع السلطة تراعي التغييرات والمستجدات ، إن على الصعيد السياسي (إقليمياً وداخلياً) أو على صعيد حقوق الطوائف أو حصصها في جنة الحكم وخيرات النظام الفريد.
لكن “الانقلاب” أطاح بالتسوية وقانونها وحاول أن يفرض وضعاً جديداً لعل أبرز ما يعبر عنه إضافة مادة “بسيطة” على قانون الدفاع (الرقم 102 العام 1983) تنص على أن “يوضع الجيش بتصرف رئيس الجمهورية”!!
وباستعراض سريع لما تحويه ذاكرتك من أهوال العام المنقضي بين نيسان 1983 واليوم، في بيروت والضاحية ثم في الجبل قبل العودة إلى بيروت وضاحيتها النوارة وصولاً إلى 6 شباط الماضي والوضع الراهن على خطوط التماس التي التهمت هذه المرة كبد العاصمة ممثلاً براس النبع وما جاورها يمكنك أن تدرك الأبعاد المدمرة لمثل هذه الجملة الصغيرة في القانون النموذجي لما ستكون عليه سلطة الانقلاب الكتائبي.
واليوم، وبعدما استنفر هذا الانقلاب الطوائف جميعاً واستفزها وأطلق ريح السموم لتغذي الوحوش الطائفية في الجهات كافة وفي الناس كلهم، يراد الوصول إلى تسوية جديدة، على قاعدة “حكومة الوحدة الوطنية” وبيانها الوزاري الذي يسفه الرئيس كرامي وبعض وزرائه بأنه “ميثاق وطني جديد” يحقق الصيغة المفتقدة لإعادة بناء لبنان الجديد…
ومع كل تمنياتنا بالنجاح، لأننا من عشاق الحياة ومن مدمني الوطنية، يظل التساؤل مشروعاً ومشرعاً كالسيف: هل هذا ممكن حقاً وكيف ومتى يكون تحقيق الأمنيات والأحلام؟
ولنترك أمراء الطوائف والطائفيين جانباً، ولنفكر بك أنت، بالإنسان الذي كان يطمح لأن يكون – في نهاية مطاف الشقاء والضياع – مواطناً في مشروع وطن اسمه لبنان.
لقد كان النظام بالتسوية السياسية الطائفية التي يرتكز عليها، هو الذي يمنع الكيان من التحول إلى وطن، ويجعل “الحقوق” كوتا من الحصص المقسمة بدقة متناهية تجعل أي تعديل فيها مخاطرة… فجاء الانقلاب الكتائبي المستهدف احتكار النظام والهيمنة المطلقة على الكيان والحصص يلغي فكرة الوطن نهائياً، ويسقط الحلم بالمواطنة، ليس فقط بالنسبة إلى المسلم بل حتى بالنسبة للمسيحي غير الكتائبي، بحيث صار أي تعديل، وبالتالي أي إصلاح، أشبه بالانتحار الجماعي عبر حرب أهلية تسعرها الطائفية وتجعل اللبنانيين وقوداً لها جيلاً في أعقاب جيل.
إن “الانقلاب” الذي أوصل أعتى رموز المارونية السياسية تعصباً إلى السلطة من شأنه أن ينسف كل قواعد اللعبة، وليس فقط في محيط الدائرة التي يهيمن عليها حزب الكتائب ومفرزات الحلف الثلاثي عموماً، بل في لبنان كله بطوائفه ومذاهبه كافة.
والضحية الدائمة بطبيعة الحال هو المواطن،
فلقد كان التفكير بالاصلاح، ولو بقدر منه، مشروعاً، وفي ظل السياسة الانقلابية غداً محظوراً لأنه صار تآمراً ليس فقط على النظام بل على الكيان ذاته، بما يخرجك من لبنانيتك ليس فقط بمعنى المواطنة بل حتى بحقوق المحاصصة، “تريد أكثر… إذن لن يكون لك شيء!!”. وهكذا تقتحم “القوات” الجبل ويقتحم الجيش “الموضوع بتصرف رئيس الجمهورية” أحياء بيروت المسلمة قيادها إلى الدولة الوليدة، وتدك المدافع والدبابات أحياء الضاحية المكتظة بحشد القانعين بالكيان ونظامه على كره، حرصاً على لبنان ولبنانيتهم.
وصار قدر الواحد منا هو الموت: تفكر بالثورة، فتموت قتلاً لتمردك، وتمتنع عنها فلا تفعل غير انتظار الموت انسحاقاً وقهراً.
فحين يصبح الكيان أقوى من الوطن والنظام أقوى من الكيان والحكم أبقى من النظام والحاكم الانقلابي، أهم من مؤسسات الحكم وأسس النظام ومرتكزات الكيان، يضمحل الإنسان ولا يعود له أي شأن.. فإن هو فكر بتطوير النظام أخرج من “الكيان” وموقعه فيه، أما إن هو ترك النظام فلسوف يلغيه النظام المجدد والمطور وفق مفاهيم الانقلابيين ومقاييسهم.
ويشدك حلم الوطن إلى فكرة الثورة فتكتشف إن طبيعة النظام الذي ترعرعت في ظله قد جعلتك عاجزاً عن الثورة الكاملة وقاصراً ومحاصراً بين استحالتين : لا أنت قادر على الثورة بوضعك الراهن ولا أنت راض بالنظام بوضعه الراهن،
ويصبح خيارك محدداً: تموت شهيد الثورة المستحيلة، ولست بالثائر المكتمل النمو والعافية، أو تغطس في مستنقع النظام الطائفي حتى ثمالة الثمالة!
وتكتشف غربتك في بلدك: لا الدولة دولتك، ومطلبك الدولة، ولا الجيش جيشك، وأمنيتك أن يكون لك جيش، ولا المناخ الطائفي المسموم يترك لك فرصة في أن تكون أنت الشعب.
وتكتشف أيضاً غربتك عن ذاتك: أنت لست أنت، فطالما لم تجسد أفكارك ولم تعشها فأنت صنيعة خارجك، وخارجك معاد لحلمك ولطموحاتك الإنسانية البسيطة.. وهكذا تصير أنت الشيء ونقيضه الحقيقة والتزوير، الصح والغلطز
ففي حين تقاتل الطائفية حتى الموت يشدك المناخ الطائفي ويفرض نفسه عليك ، بهذه النسبة أو تلك، ولكنه في كل الحالات ، يغيرك بالاتجاه الغلط، فتصير غير ما كنت أو ما تريد أن تكون.
وفي حين ترى نفسك جديراً بالبلد، تريد خيره وتناضل لرفع راية المواطن فيه فإن الهواء المسموم يحاصرك ويضيق عليك الطائفيون حتى “تزهق” وتياس وتحبط وتقتنع إن البلد ليس بلدك فتهج عنه، أو تصير منهم فتخون فكرة الوطن ولا تكافأ حتى بجائزة ترضية،
وأبأس الناس هو من تخلى عن يقينه فقبل بأن يتحول من وطني إلى كياني، إن الكيانيين الطائفيين يدخلونه في سلسلة من الامتحانات لا تنتهي ويطالبونه في كل لحظة، بأن يثبت براءته من الوطنية ومن فكرة الوطن، و”ولاءه” للكيان أي للطائفية.
وتكرج التنازلات ولا تنتهي إلا بنهاية البائس القابل بالصفقة البائسة،
ماذا إذن؟!
هل “نهج”؟!
أبداً ولكننا سنسقط الكثير من الأوهام حول ما يجري من حولنا، فلسنا نعيش زمن الثورة، ولن يجيئنا النصر باهراً على حصان أبيض.
المهم أن نمنع الانهيارات ، أن نقاوم السقوط في المستنقع الطائفي، أن نرمي بثقلنا لإحباط الانقلاب الذي لا بد أن ينتج في كل مكان مسوخاً طائفية متشابهة.
فلننقذ أنفسنا كخطوة أولى على طريق طويلة، نحو تحقيق الفكرة الساطعة: الوطن،
ومهما كان بعيداً عنا فيجب أن يظل في قلوبنا ويجب أن تتركز عليه أبصارنا لأنه هو هو الخلاص والأمل بغد أفضل.
ولنعرف إننا بقدر ما نصمد ونبقى واقفين نمنع انهيار الآخرين الذين قد يشدهم “الانقلابيون” إلى حيث لا نريد ولا نقبل منهم ولا لهم.

Exit mobile version