طلال سلمان

على الطريق الانتخابات أم الحكم؟

من الظلم أن يترك الياس الهراوي وحيداً في ساحة المواجهة مع كل الذين يحاولون هدم هيكل اتفاق الطائف على رؤوس بناته والمستفيدين منه والمنتفعين بخيراته.
وليس عدلاً أن يتسابق هؤلاء الذين قطفوا ثمار “الجمهورية الثانية” وهي بعد قيد التأسيس، على مغادرة السفينة لأنها تواجه بعض الانواء والمصاعب…
وكائنة ما كانت أخطاء الحكم وخطايا حكوماته فلا يجوز أن تلقى تبعات المواجهة على كتفي الياس الهراوي وحده وكأنه آخر “فرسان” اتفاق الطائف وما ترتب عليه من نتائج سياسية أعادت إلى الحياة من كان ينازع وذكرت بمن كان نسيا منسياً وأنقذت أحزاباً وقوى ووجاهات وقيادات كانت محاصرة بين نار الكانتون الطائفي ونار المشروع الانقلابي، وكلاهما كان دعوة إلى الانتحار الجماعي.
ولا يستطيع هذا العهد إلا أن ينحو منحى هجومياً، وفي اللحظة التي يوقف فيها هجومه السياسي الشامل فإن خصومه الكثر سينقضون عليه بأحقادهم وبدعم القوى المتضررة من التحولات التي طرأت على صيغة الحكم في لبنان وتوجهاته لاسيما في ما يتصل بالصراع العربي – الإسرائيلي.
والانتخابات ليست إلا ذريعة وفرصة لإعطاء الإشارة ببدء الهجوم، خصوصاً وقد جاء توقيتها متزامناً مع الموعد المحدد لاستئناف المفاوضات الثنائية المباشرةبين “الأطرافط العربية وبين عدوهم الإسرائيلي (الاثنين المقبل في واشنطن).
ولعل توسيع دائرة الرؤية يوضح بعض ما خفي من أسرار هذا الاستنفار الشامل في وجه انتخابات ما كانت ستغير شيئاً جوهرياً لا في طبيعة النظام ولا خاصة في توجهات الحكم.
فبين الجولة الأخيرة من المفاوضات “عشية الانتخابات الإسرائيلية) وبين الجولة الجديدة (عشية الانتخابات الأميركية) جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات الأميركية – الإسرائيلية بدلت في الأساسيات بحيث ستواجه “الأطراف” العربية موقفاً غاية في الصعوبة، وسيفتقدون ما كان يشكل الضمانة لقدر من الاعتدال والاتزان في دور “الراعي” الأميركي.
فما حصل عبر انتخابات الكنيست الثالث عشر يتعدى سقوط “التطرف” الإسرائيلي ونجاح “الاعتدال” عبر رجل أميركا القوي إسحق رابين. لقد سقطت أيضاً تلك المسافة التي كانت تفصل بين الموقف الأميركي من مشروع “الحل” والموقف الإسرائيلي منه، وبات على العرب أن يواجهوا الطرفين وكأنهما واحد.
وليس مستبعداً أن تنقل واشنطن الاتهام بالتطرف الآن إلى الجانب العربي، وهو هنا السوري – اللبناني، وأن تضغط عليه لكي “يعتدل” ملتحقاً بشريكه الفلسطيني الذي يلوح له ببعض الاغراءات في الشكل لكي يتخلى تماماً عن مضمون مطالبه الوطنية البديهية والمحقة.
وإذا كانت بعض الأصوات الفلسطينية قد أخذت ترتفع متسائلة عن جدوى المشاركة في الجولة الجديدة للمفاوضات، والتي يمكن اعتبارها “الأولى” من وجهة نظر الإدارة الأميركية (القديمة) والحكومة الإسرائيلية (الجديدة)، فمن حق المحور اللبناني – السوري أن يعد العدة لاحتمال أن يجد المناخ غير ملائم للاندفاع في المفاوضات بغير هدف إلا مساعدة الرئيس الأميركي جورج بوش المهدد في ولايته الثانية.
هل هذا كلام خارج الموضوع؟!
أبداً، فالانتخابات ليست هدفاص بذاتها. لعلها الحرب الوقائية، بالنسبة للحكم بقدر ما هي ذريعة الهجوم الطائفي الشامل، بشعارات ديموقراطية بالنسبة للمعارضة التي لا تريد أقل من رأس الحكم وتوجهاته.
في أي حال فليس من العدل أن يترك الرئيس الهراوي وحيداً في مواجهة هذا الهجوم الشرس الذي لا يستهدف شخصه فحسب، بل الأساس القانوني والسياسي لحكمه، أي اتفاق الطائف وجمهوريته الثانية التي لما تزل قيد التأسيس.
وليس أسهل من إطلاق الاتهام قاسياً ومباشراً وقاطعاً: “رئيس الجمهورية هو المسؤول عن ورطة الانتخابات هذه التي وضعنا فيها، وبالتالي فهو المسؤول والمطالب بإخراجنا منها”.
وليس أسهل من الاستطراد مع هذا المنطق كان يقال، مثلاً: “إنها حرب الخلافة المارونية، ورئيس الجمهورية الماروني هو المعني وهو المؤهل لأن يتصدى ويرد على “معارضيه” كما على “أصدقائه” من الطامعين في وراثته، ولو من الموقع المضاد.
“وإذا كان صحيحاً أن الكنيسة قد نزلت إلى ساحة المعركة بخيلها ورجلها فهذا سبب ادعى لأن يكون رئيس الجمهورية – بمن وما يمثل – هو القادر على خوضها من دون تحرج وإثارة للحساسيات تخرج الأمر من إطاره الطبيعي وتحرك به الجمر تحت رماد الأحقاد الكامنة لتجديد مناخ الحرب الأهلية ومنطلقها المسموم”…
إن الوضع أخطر من أن يتحمل مسؤوليته فرد، كائناً من كان وما كان موقعه… والأهم إنه أخطر من أن يستطيع رجل فرد، ولو في سدة الرئاسة، أن يواجهه وأن يتدبر له الحلول.
وليس صك براءة لأي معارض أو معترض من غير أصحاب المشروع الانقلابي أو من غير الانفصاليين أن يقول: لقد حاولت ففشلت فانسحبت!
فمصير البلاد أخطر من أن يترك لمجموعة من المغامرين الذين ليس لديهم ما يخسرونه.
ومرة أخرى فالانتخابات هي الذريعة وليست هي المسألة بحد ذاتها – لكن سوء إدارة الأزمة حول الانتخابات من موضوع للاختلاف بين الحكم وبعض السياسيين إلى مأزق يتهدد الحكم وقاعدة الوفاق الوطني التي يرتكز إليها.
لقد استغل أصحاب المشروع الانقلابي مسألة الانتخابات والاختلاف حول توقيتها وكذلك الاعتراض على قانونها وبعض الممارسات والاجراءات الخاطئة التي رافقت الإعداد لها، لكي يفجروا خزان الأحقاد، ولكي يغطوا على مسؤوليتهم عن الدمار الذي أصاب البلاد بسبب مغامراتهم الانتحارية، محملين الحكم المسؤولية عن كل ما كان بما في ذلك حروب التهجير و”التحرير” و”الالغاء”.
لكن هذه الأخطاء لا تبرر أن يتلاقى الأضداد، الجلاد والضحية، مثل هذا التلاقي المشبوه على مشروع انتحاري جديد، يهدد كل ما تم الوصول إليه بعد طوفان من الدماء.
فليست الانتخابات سبباً مقبولاً لحرب أهلية جديدة، فلا هي البداية ولا النهاية ولا هي جوهر الصراع حول مستقبل لبنان، بأرضه وشعبه ودولته والمؤسسات.
وهموم الناس خارجها، إلى حد كبير،
ولقد يحاسب الناس العهد بقسوة على تقصيره أو قصوره في معالجة مسائل معاشهم والتدهور المريع في قيمة نقدهم الوطني، ولكنهم لا يعتبرون إن “انتصار” المعارضات عليه يحل مشكلاتهم ويستحضر الحل الحاسم لهمومهم الثقيلة.
وصحيح إن الناس لا يريدون أن تكون الانتخابات تحدياً لأي طرف أو “فئة” في لبنان، ولكن من تراه يجعلها كذلك؟!
ولماذا حتى الانتخابات تصبح سلعة في سوق المزايدة الطائفية؟
والمهم أن يحصن الحكم نفسه ضد أخطائه، فهي الثغرات التي ينفذ منها خصومه والقوى الدولية التي تريد إضعافه لابتزازه وابتزاز سوريا (المعنية بأمن البلاد وسلامة توجهات الحكم فيها) عبره،
وأول الشروط أن يحمي الحكم وحدته ليتمكن من حماية أهدافه وتوجهاته.
والمهم أن تتسع دائرة النقاش، وأن يجمع الحكم حوله كل المعنيين بسلامة البلاد.
ولعلها تكون فرصة لأن يستعيد الحكم زمام المبادرة لاستكمال جهده من أجل المصالحة الوطنية على قاعدة سياسية تأخذ بعين الاعتبار ما كشفته حرب الانتخابات من “حقائق” جديدة، أخطرها تلك التي تتصل بطبيعة تركيبته ذاتها.
والذين يغادرون اليوم سفينة الحكم هم نموذج لأولئك الذين يهربون بغنائمهم عند أول طلقة، تاركين ضحايا أخطائهم يدفعون الثمن مرة أخرى.

Exit mobile version