طلال سلمان

على الطريق الانتحار الأميركي.. بالقانون!

قف، فأنت مطلوب!!
كائناً ما كان اسمك، عمرك، دينك، لون بشرتك، مستوى تعليمك، وضعك الاجتماعي، موقعك السياسي في بلادك… أنت متهم، بل أنت مدان حتى تثبت براءتك، إذا ما ثبتت للمحكمة الأميركية وبموجب القانون الأميركي.
أنت مطلوب، وبوسع “الشريف” الأميركي أو أي عميل للأجهزة الأمنية الأميركية، السرية منها والعلنية، أن يخرج عليك من شاشة التلفزيون أو من شاشة السينما – بمسدسه أو ببندقيته التي لا تنتهي طلقاتها – فيأمرك بأن تسلم نفسك لعدالته أو تموت!
فلقد قضت المحكمة العليا (الاتحادية) بأنه يحق (!!!) للولايات المتحدة أن تخطف (!!) أي مشتبه به في قضية جنائية من دولة أخرى، على الرغم من اعتراض هذه الدولة ومن دون إتباع الاجراءات التي تحددها معاهدة تسليم المطلوبين للعدالة ، في حال وجود معهادة كهذه!
وكان يمكن فهم الأمر لو أنه صادر عن جهة أمنية (المخابرات) أو عسكرية أو حتى سياسية، أما أن يبلغ العتو والزهو بالنفس والشعور بالقدرة غير المحدودة وبالحق “الإلهي” في محاسبة الشعوب (الأخرى) ومواطنيها هذا المستوى، وأن يحطم حرم القضاء وأبسط مفاهيم العدالة وكل القوانين والأعراف، فهذا يعني أن أعظم دولة في العالم مريضة وإن مرضها عضال ولا شفاء منه.
حتى روما، أيام إن كانت سيدة العالمن لم يصل بها الاعتداد بالذات والتفاخر بالقوة وممارسة هيمنتها على شعوب “مستعمراتها” إن استصدرت مثل هذه “القوانين”، وإن أباحت لمحاكمها أن تحطم مفهوم العدالة وبديهيات السيادة وحقوق الإنسان بمثل هذا الاستخفاف بكرامة الأمم والشعوب، بمن في ذلك “شعوب” الولايات المتحدة الأميركية.
إن مثل هذه “القوانين” إنما تلغي مفهوم العدالة والقانون داخل الولايات المتحدة أولاً، وهي إهانة توجه أساساً إلى الأميركيين أنفسهم، إذ تجعلهم مجرد عصابات مسلحة يطبقون – بمسدساتهم وبنادقهم السريعة الطلقات – شريعة الغاب عشية القرن الحادي والعشرين.
إنها ذروة التمييز العنصري… وهي ذروة لم يفكر حتى الصهيوني بأن يتسنمها برغم اعتماده التمييز العنصري أيديولوجية ونهجاً طبيقاً لأسطورة “شعب الله المختار”.
إنها عملية اغتيال متأخرة للثورة الأميركية ولأبطالها وعلى رأسهم “محرر العبيد” ابراهام لنكولن… بل إنها محاولة اغتيال مبكرة للإمبراطورية الأميركية التي يبدو – إنها هي لا غيرها – إمبراطورية الشر في هذا العالم!
ففي حدود ما هو معروف لم يسبق لدولة إن “شرعت” حقها في الاعتداء على رعايا الدول الأخرى، واختطافهم، تحت أي ذريعة تخطر ببال أصحاب الاحتكارات والشركات والتروستات الكبرى.
فليس أسهل من اتهام أي إنسان “يزعج” السياسة الأميركية، في أربع رياح الأرض، بأنه إرهابي… خصوصاً إذا ما كان خطر في باله ذات يوم، أو في أحلامه، أن يقول بفكرة الثورة أو التحرير أو التحرر، أو يدعو إلى الكفاح المسلح، أو حتى إلى التظاهر احتجاجاً على ظلم واقع، ناهيك بمن كتب أو نشر أو روج للأفكار الهدامة!
لكأنما يقسم الأميركيون العالم قسمين: الاتباع والموالون والعبيد والاقنان أبرياء أنقياء، وأما المشاغبون والمعترضون والمعارضون، والمطالبون بالحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان، بأي شكل وعلى أي مستوى، هم غرهابيون أو تجار مخدرات، ولا مجال بالتالي للبراءة أو للسلامة الشخصية!
“سيف السلطنة طويل”… من القطب إلى القطب المجال الحيوي لرصاص الكاوبوي الأميركي ولحبله ذي الأنشوطة الذي يشنق به الآن العالم كله، بلا أمل في نجدة أو مغيث،
… خصوصاً بعدما تعهد “بطل الثورة الروسية” بوريس يلتسين، بأن يقاتل شعب بلاده البائسة دفاعاً عن حرية أميركا، كأنما حرية بلاده الروسية وارفة الظلال جذورها في الأرض وفرعها في السماء!
إنه العصر الأميركي،
ولكن من قال إنه القدر المحتوم؟
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تخطف عروشاً (بالجالسين عليها)، وإن تخطف أقطاراً من شعوبها، وأن تفكك دولاً بتشجيع الفتنة بين قومياتها وأعراقها، ولكن من قال إن تاريخ العالم يمكن اختزاله بهذه الفترة الانتقالية التي يتحكم فيها الأميركي البشع بمصائر الشعوب والأمم (وهي بمجملها أعرق منه حضارة وأعظم تماسكاً وذات تراث مجيد وخبرات عظيمة في أصول العلاقات الإنسانية وأعرف بأن استمرار الحال من المحال)…
لقد وصف وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتس بيروت، ذات يوم، بأنها “الطاعون” بعدما استشرت فيها آفة خطف الرهائن الأجانب،
ومع إن حوادث الخطف تلك (وهي غير مبررة وغير مقبولة) ظلت محدودة جداً، فقد ثار عليها العالم كله وفي الطليعة منه أهل لبنان والعرب عموماً، وسعى الجميع لأن تنتهي بسلام ليتحرروا من هذا الكابوس،
أما الدولة العظمى، سيدة الكون، فتقرر ممارسة خطف الأفراد بالقانون!! أما خطف الدول وثرواتها ومواردها الطبيعية فلا يحتاج إلى مثل هذا الجهد المضني!!
إنها شهادة إضافية بافتقاد الأهلية والجدارة،
فمثل هذه الدولة لا يمكن أن تسلم مسؤولية قضايا جدية كالسلم العالمي والاستقرار والتقدم الإنساني،
فالعصابات قد تعكر صفو الناس، وقد تعطل مسيرة القافلة ليوم أو لبعض الوقت، لكنها لا تدعي لنفسها ولا أحد يسلم لها بحق القيادة.
إن الولايات المتحدة الأميركية تنتحر،
ومن الصعب الجزم بمصدر الرصاصة القاتلة: هل يكون الداخل الأميركي بمشكلاته الاجتماعية – الاقتصادية – النفسية والسياسية الهائلة، أم يكون الخارج (الأوروبي – الآسيوي – الاميركي اللاتيني – الأفريقي) الذي توجه إليه تحديات وإهانات ويعامل باحتقار يصعب على أي إنسان تحمله،
ثم ماذا سيخسر مثل هذا الإنسان فيما لو تصدى وقاتل الاضطهاد؟!
إنه مطلوب، بل هو مدان وسلفاً، وبالتالي فهو لن يخسر، إذا ما تحرك، إلا قيوده.
والتاريخ ليس مجرد شرطي عند السيد الأميركي!

Exit mobile version