طلال سلمان

على الطريق الامتحان الحقيقي لجدية التوجه إلى تنفيذ اتفاق دمشق حتى لا تظل بيروت على الصليب

ستظل بيروت موضوعنا الأول والأغنية الأحب وجرحنا المفتوح، لأنها تلخص الماضي والحاضر والمستقبل، بالنسبة للمواطن كما بالنسبة لحلم الوطن.
وسيظل أمن بيروت، أمن أهاليها وتراثها وتاريخها، وصولاً إلى معالمها ورموزها ومقومات دورها الذي لا يعوض في تأكيد وحدة لبنان واللبنانيين، وتأكيد هويته – هويتهم القومية، المؤشر الأهم على سلامة توجه الأطراف جميعاً والفئات جميعاً نحو حل حقيقي لأزمة البلاد، أو على ضياعهم – بعضهم أو كلهم – وقصورهم وعجزهم أو ربما رفضهم لوقف النزف القاتل وتلمس الطريق إلى الحل المرتجى والمنشود.
فأمن بيروت هو عنوان “المسألة السياسية”، أي “القضية”، وليس “أمراً تفصيلياً أو فنياً يولج إلى “الخبراء” و”ذوي الاختصاص”، بينما ينصرف “القادة” و”المسؤولون الكبار” إلى ما بين أيديهم من شؤون المصلحة العليا وشجون المصير.
وبديهي القول: إن من يعجز في حماية بيروت وتأمين سلامة أهلها لن ينجح في حماية الوطن والمواطنين، أي “القضية”، فكيف بمن يقصر أو يتسبب في الإساءة إلى بيروت وأهلها، أو من تبقى منها ومنهم؟!
وما زالت طرية في ذاكرتنا جميعاً تلك النهاية المفجعة لأولئك الذين تصرفوا مع بيروت وكأنها “رهينة” أو “طائرة مخطوفة”.. برغم أن بيروت العظيمة قد أسلمتهم نفسها وارتضت – بوعيها لدورها القومي ولطبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي – أن تكون الأداة ووسيلة الضغط للحصول على “الفدية”.
كانت التجربة بائسة إلى حد أنه لا يجوز لأحد من خارجها أن يكررها، ليس فقط بدافع الحرص على سلامة بيروت وأهلها، بل أساساً بدافع الحرص على سلامة قضيته ذاتها، فكيف بمن كان في بيروت ومن أهلها ومصيره الشخصي (والوطني) مرتبط باستمرار وجودها ودورها المميز؟!
ولقد كان بين أبرز دروس الحرب الأهلية، على امتداد سنواتها العجاف، إن التقسيمي في بيروت لا يمكن أن يكون وحدوياً خارجها، مهما تشدق بشعارات وحدة الوطن والشعب والمؤسسات، وإن الفئوي في بيروت فئوي في كل مكان. مهما تغنى بترانيم الوحدة الوطنية ووحدة الصف والهدف والبندقية الخ…
هذا حتى لا نتحدث عن مشوهي وجه بيروت و”الذين رموا بماء النار وجه الأميرة، فعبثوا بحياة أهلها وأزراقهم واستباحوها فعاثوا فيها فساداً، وانطلقوا “يشبحون” ويفرضون الخوات والأتاوات وينهبون المتاجر والمؤسات والمصارف والبيوت. ويمتهنون كرامات الناس “ويصادرون” حرياتهم وآراءهم وسياراتهم، لا فرق.
المسألة واحدة دائماً “الشبيح” يحتمي بصاحب القوة، وصاحب القوة هو صاحب الأمر، وصاحب الأمر هو صاحب القرار في الشأن السياسي العام.. وهكذا فإن مستبيح البيت يحتمي بالمهيمن على الشارع، وهذا يحتمي “بالمسؤول” عن المدينة، والمسؤول عن المدينة يحتمي بالمهيمن على جهة أو قسم من البلاد على حساب وحدة البلاد ونتيجة لغياب أو تغييب الحل الوطني الموحد بالضرورة، واللاغي حكماً للدويلات القائمة بقوة السلاح…
لنرجئ ، اليوم، مناقشة مجمل ما حدث خلال أيام هياج الغرائز وانفلاتها مهددة بأن يدمر زلزالها الخطير ما تبقى من بيروت وحلم الوطن، ولنعرض لأمر “تفصيلي” جداً ولكنه من الأهمية بحيث يستحق أن يكون البند الأول على جدول أعمال الاجتماع الرسمي، الأول للجنة إحياء اتفاق دمشق الخاص بأمن بيروت وأهلها،
عنوان هذا الأمر “التفصلي” وجود المواطنين المسيحيين في بيروت الغربية.
أما مضمونه الفعلي فهو وجود بيروت كلها، بمسلميها ومسيحييها، وأساساً بما هي مصغر للبنان – الوطن، ودورها الحضاري الذي ظل متميزاً حتى ضربتها الحرب الأهلية، وهويتها القومية المهددة الآن بالتمزق والاندثار،
فكما أنه لا مجال لأن يكون لبنان وطناً قومياً مسيحياً فإنه لا مجال لأن يتحول إلى جمهورية إسلامية.
وكما أنه لا مجال لاعتبار “الغيتو” الموحد اللون الفئوي في الشطر الشرقي من بيروت هو “العاصمة” والمركز الذي لا بد منه لعملية إعادة توحيد لبنان – الوطن، فإنه لا مجال مطلقاً لأن يكون الشطر الغربي – كما يراد له أن يصير – عاصمة من أي نوع لأي بلد من أي نوع،
إن نصف بيروت “المسيحي” ليس بيروت، وكذا نصف بيروت “المسلم”
وحصيلة جمع “النصفين” لا تعطينا بيروت، مطلقاً، ولا تعطينا عاصمة للبنان ما.
إن بيروت تكون عاصمة بكل من فيها وبكل ما كانته، أو لا تكون شيئاً مذكوراً.
بمعنى آخر : بيروت عاصمة لبلد مبرر الوجود وذي دور، أو مجرد معلم جغرافي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لا يهم أن تكون عالية العمارات أو كثيرة المتاجرة أو مزدحمة بسكانها سواء أكانوا “أصليين” أم “وافدين”،
وقد يقبل الاعتذار عن عدم توحيد بيروت فوراً، لأسباب سياسية أولاً وأخيراً، وبالتالي لاسباب أمنية، ولكن استمرار تمزيق “البيروتين” وحفر الخنادق بينهما وفي قلب كل من الشطرين يكون سبباً لتمزيق البلاد وتدمير ما تبقى من عوامل وحدتها وفرض الحرب الأهلية عليها وكأنها قدر لا يرد.
وإذا ما حصرنا الحديث في ما يجري في بيروت (الغربية)، هذه الأيام فما ذلك إلا لكونها هي هي، وبرغم كل ما وقع لها وفيها، ما تزال تمثل (حتى هذه اللحظة) “العاصمة” و”المركز الموحد” بالنسبة لكل اللبنانيين, وخلاصها هو معقد آمالهم ومنطلق إيمانهم في إمكان الوصول إلى حل وطني يشكل خاتمة أحزانهم وآلامهم المنهكة.
بيروت هذه تخسر كل يوم شيئاً من مبررات وجودها ودورها كعاصمة.
ولقد بات واضحاً إن ثمة قراراً اتخذته جهة أو جهات ما بإفقاد بيروت الدور والوجود كعاصمة لدولة مركزية موحدة.
وعلى طريق تنفيذ هذا القرار التقسيمي يتم تفريغ بيروت من رموزها المضيئة ومن معالمها ومن مقومات دورها يستوي في ذلك البشر والمؤسسات.
فمن يجعل الحياة في بيروت مستحيلة أو قاسية بحيث لا يمكن تحملها إنما يقاتل من أجل أن يستحيل إمكان إعادة توحيد لبنان، ناهيك بإعادة بنائه.
إن هؤلاء الذين “يهشلون” أصحاب الكفاءات والخبرات، من علماء وأدباء وفنانين وكتاب وأطباء ومهندسين ورجال قانون ومصرفيين وحرفيين، إنما يشنون حرباً أخرى لقتل روح لبنان لعلها أقسى في النتائج من الحرب “المعروفة” التي تلتهم المزيد من اللبنانيين يومياً.
كذلك فإن هؤلاء الذين “يطاردون” المواطنين المسيحيين في بيروت الغربية، بالتعديات المختلفة وأشنعها الخطف المتكرر وفق خطة مدروسة، إنما يعملون لقتل روح بيروت ولبنان الواحد الموحد.
في السياق ذاته يمكن أن يقال إن المتهاونين في وقف هذه العمليات والمناهج والخطط الإجرامية والمتغاضين أو الساكتين عن محاسبة مرتكبيها، لا بد من أن توجه إليهم اتهامات خطيرة أبسطها إنهم يساعدون التقسيميين والعاملين لتحويل لبنان إلى مشاع سائب يفيد منه عدوه وعدو أمته أولاً وأخيراً،
وإلا فكيف لنا أن نصدق أن أحداً من “أبطال” حوادث الخطف هذه لم يعرف ، وإذا عرف لم يوقف ولم يفضح ولم تكشف الجهات المختفية خلفه وأغراضها الخبيثة.
إن أجهزة الأمن “الخاصة” “والعامة” تزدحم في جنبات المدينة التي تصغر يوماً بعد يوم، والتي تعيش أجواء حصار فعلي مستمر، فكيف تصادف أن أياً من هذه الأجهزة لم يستطع منع عملية خطف قبل حدوثها أو قمعها عند حدوثها، أو كشفها وفضح “أبطالها” بعد حدوثها وإطلاق المخطوفين التعساء أو بعد إخفائهم المفجع… في انتظار قضاء الله وصبر الصابرين؟!
إن بيروت الغربية على الصليب،
وأي حديث عن الأمن فيها والإجراءات والتدابير التنفيذية لاتفاق دمشق، لا يمكن أن يكتسب الحد المطلوب من الجدية (حتى لا نقول : المصداقية)، إلا إذا تأكد ذلك بموقفة جادة ومسؤولة أمام ما وقع في الماضي القريب من حوادث وأحداث جسام هزت علاقة المواطن بوطنه.
فعندما تصبح المدينة والبلاد جحيماً تستحيل الحياة فيه لا يلام المهاجرون منه والناجون بأرواحهم وأولادهم وما تبقى من قروشهم إلى أي مكان في الأرض.
وعندما تصبح خانة المذهب في الهوية هي – وهي وحدها – ضمانة السلامة لا يلام الهاربون والمهجرون بالقهر على قرارهم بالذهاب إلى الضفة الأخرى، حيث يربحون أعمارهم ويعيشون في غصة إنهم خسروا البيت والأصدقاء والأمكنة والأشياء الأليفة والذكريات الحميمة وربما حلم الوطن…
إن بيروت الغربية بكل من فيها على الصليب،
ويجب أن يثبت في ذهن المجتمعين اليوم في مكتب الرئيس رشيد كرامي أن الامتحان هو لوطنيتهم وليس فقط لكفاءاتهم أو لجديتهم أو لقدراتهم في تنفيذ اتفاق دمشق.
ويجب أن يثبت في أذهانهم، أولاً، إنه لا أمن لأي واحد منهم منفصلاً عن أمن الآخر،
إن أمن “المسلم” من أمن “المسيحي” أمن “الشيعي” من أمن “السني” وأمن “الدرزي” من أمن “الماروني” أو “الأرثوذكسي” وهلمجرا.
ولأن الأمر متصل ببيروت (الغربية) فأمن المواطن “المسيحي” هو الذي يحدد إذا ما كانت هذه اللقاءات والتدابير والاجراءات مجرد “اسفنجة” لامتصاص نتائج الزلزال الذي عصف ببيروت وأهلها قبل أسبوعين، وطي صفحة الفظائع التي ارتكبت وطمس هوية مرتكبيها ونثر دم الضحايا على القبائل جميعاً، أم أنها ستكون فرصة لوقفة جادة أمام المسؤوليات وقضايا المصير.
فليس المواطن المسيحي هو وحده المستهدف بل المستهدف معه وربما قبله بيروت المشروع التوحيدي لحلم الوطن في لبنان.
إن إيذاء المسيحي هنا ينقص من حق المسلم في الوطن، تماماً كإيذاء المسلم هناك.
وبيروت المدمرة، معنوياً ومادياً، هي صك البراءة وشهادة الميلاد لقيام الكانتونات والغيتوات الطائفية والمذهبية وهي إعلان تجديد الحرب الأهلية في لبنان حتى … يشيب الغراب.
ليس الأمر أمر أخلاق وتقاليد وقيم، فحسب، بل هو أمر مصير شعب ووطن،
وليست سلامة المواطنين المسيحيين مسالة أمنية بل هي “المسألة السياسية”، فلن يكون المسلمون بخير متى هدد المسيحيون في حياتهم وأرزاقهم، والبلاد أصغر من أن تتسع لشطر سعيد بشقاء الشطر الآخر، نكون فيه جميعاً أو نرحل عنه جميعاً، أو يتم خطف الوطن ذاته ويضم إلى عداد المخطوفين المفقودين، ونتيه في أربع رياح الأرض نستجدي مع اللقمة الكرامة والاعتراف بآدميتنا وحقنا في الوجود.
وأي بلاد هي تلك التي يفرض على المواطنين أن يعيشوا فيها ووضعهم بين مخطوف ومقتول ومصلوب ومسحوق ممتهن في كرامته، وفي أبسط حقوقه كإنسان.
نعرف إن ما نعرضه خطير ولا يستطيع لقاء أمني أن يحسمه في جلسة أو جلستين.
ولسنا نطلب المستحيل لا من الرئيس كرامي ولا من الذين يجتمعون عنده لتثبيت الأمن في بيروت الغربية، أو نحاول – لا سمح الله – إثبات عجزه أو عجزهم أو سوء النوايا.
إن ما نطلبه بسيط ومحدد أن تتأكد جدية التدبير بتحدثد عقوبة المخالفة وإظهار القدرة على إنزال العقوبة بالمخالفين.
فلو ضبطت عصابة واحدة من عصابات السطو على المصارف (وسائر المؤسسات وصولاً إلى البيوت والسيارات) لتوقفت أعمال السطو، خصوصاً إذا ما نفذت الأحكام الطبيعية بحق اللصوص وشهر سياسياً بالجهة الحامية والمستفيدة من السطو.
ولو ضبطت شبكة واحدة من شبكات مروعي المواطنين المسيحيين بالخطف أو التهديد بالخطف أو الابتزاز، لتوقفت هذه الجرائم الشنيعة، خصوصاً إذا ما أمكن الوصول “بأبطالها” إلى المحاكم ثم إلى السجون (حتى لا نقول إلى حبل المشنقة).
إن الرادع الأول للمجرم هو العقاب، فإذا تعذر العقاب تفاقمت الجريمة حتى تأتي على الوطن ذاته، لأن الجرائم موضوع حديثنا وهمومنا كلها من طبيعة سياسية.
وقرار البدء هو قرار سياسي وليس قراراً أمنياً، تماماً كقرار إنزال بيروت، ومن ثم لبنان، عن الصليب.
وهذا هو القرار المطلوب والذي لا يحتاج إلى “استكمال النقص في التجهيزات” الذي تنتظره “القوة الخاصة” لتكون وقوى الأمن الداخلي لتباشر مهامها الطبيعية.
فهل تأمل بيروت الجريح “أميرة الحزن” أن تحظى بمثل هذا القرار ليمكنها أن تفتح مجدداً نوافذها على الشمس والهواء، وأن تسقي أصص الورد العطشى على الشرفات المهجورة؟!
وهل نأمل أن نسمع خبراً طيباً عن أحد الذين شفوا آلام العديد من أهل بيروت واللبنانيين والعرب عموماً، الطبيب منير شماعه وصديقه الدكتور جوزف سلامة، حتى نطمئن إلى أن ما تبقى من معالم بيروت وسماتها المشعة، كمستشفى الجامعة الأميركية، والجامعة ذاتها وسائر الجامعات والأطباء عموماً وسائر أصحاب الكفاءات.. إن الكل باق وإن بيروت بالتالي باقية وكذلك لبنان؟!
لنأمل خيراً ولنردد مع الرئيس كرامي تفاءلوا بالخير تجدوه.
ونتائج الامتحان، في أي حال، ستظهر فوراً، وعلى طبيعتها تتوقف أمور كثيرة ، هنا كما في دمشق.. ولاسيما في دمشق.

Exit mobile version