طلال سلمان

على الطريق الاعتراف

تعاقبت، خلال الثماني والأربعين ساعة الماضية، على “مسرح القاهرة” مجموعة من المشاهد التي أعادت إلى الأذهان صورة شاحبة لمصر “المحمية” والمخضعة لإرادة قهر أجنبية.
يقول رئيس الدولة كلاماً سرعان ما يضطر إلى سحبه وحبره لما يجف، وتصدر وكالة الأنباء الرسمية “تصحيحاً” يكاد يتجاوز بمضمونه الاعتذار العلني، ثم بعد ساعات قليلة تخللتها زيارة لموفد إسرائيلي جاء للاستيضاح، عادت الحكومة فأكدت – بموقف رسمي – ما كان اعتبر هفوة ارتكبها رئيس ادلولة بحسن نية!
أي إن جمهورية مصر “العربية” لم تستطع أن تتصرف في شأن عربي مبدئي يتصل بأقدس قضية عربية (وإسلامية) تصرف تركيا التي لم تعرف لا بحرارة عواطفها تجاه العرب أو تجاه المسلمين..
ثم إن تركيا عضو في حلف الأطلسي، ودولة “أوروبية” حسب تصنيفها لنفسها، وهي تكاد تتسول قرار ضمها إلى السوق الأوروبية المشتركة.
وهكذا يتأكد، بالمحسوس، ما كان أعلنه حسني مبارك في غير مناسبة من أن اتفاقات كامب ديفيد ليست إلا “حتة ورقة”،
لكن “حتة الورق” هذه منعته فعلياً من التصرف بشكل لائق ومقبول مع “دولة على الورق” هي الأخرى،
… هذا مع كون هذه “الدولة” تحمل اسم فلسطين، وإن كانت قد أسقطت قصداً في ما يبدو الهوية العربية عن الاسم الرسمي لهذه الدولة العتيدة!
بالطبع ستخرج علينا في غد أصوات متعددة المصادر تتحدث عن “شجاعة” الرئيس المصري وعن “تحديه” للهيمنة الإسرائيلية (بل والأميركية أيضاً!!)، وعن ضربه عرض الحائظ بموجبات كامب ديفيد الخ…
لكننا ممن يبحثون عن مصر وليس عن حاكمها الضعيف والخايب!
مصر التي قدمت زهرة شبابها من أجل فلسطين وعلى طريقها، والتي تحملت في ماضيها القريب بصبر واباء وبلا منة موجبات التزامها القومي فاستحقت موقع القيادة لموكب تحرير الإرادة العربية والأرض العربية، بالثورة، وبالتصدي المباشر والمتصل لقوى القهر في الداخل والخارج، وهي هي القوى التي ضيعت فلسطين وأقامت إسرائيل وحمتها وأمنت لها أسباب الحياة والتفوق على العرب مجتمعين، وفي مقدمهم مصر.. المحروسة.
مصر التي عانت الأمرين من تحكم الإرادة الأجنبية بملكها الفاسد وبلاطه وسياسييها الأعظم فساداً، وكان بين ما عانته أن هزم جيشها في فلسطين، سنة 1948، والتي من أجل كرامتها وتحرير إرادتها الوطنية عاد الجيش المهزوم ليفجر الثورة العظيمة في 23 يوليو 1952.
مصر التي اشكرت بريطانيا العظمى وفرنسا الإمبراطورية (حتى يومذاك) وإسرائيل في شن العدوان الثلاثي عليها العام 1956، من أجل إلغاء دورها في تحرير ذاتها والأمة، إرادة وارضا، سياسة واقتصاداً ثروات وتطلع مشروع إلى غد أفضل.
فلقد كانت فلسطين بين الأهداف الأساسية للغزو الثلاثي، تماماً مثلما كانت الجزائر، جنباً إلى جنب مع مصر الثورة،
بل كان الهدف النهائي إعادة إخضاع الأمة بكل أقطارها، في المشرق والمغرب، انطلاقاً من مصر: القائدة والرائدة وحاملة راية التحرير!
… وهو هو الهدف الذي توخته اتفاقات كامب ديفيد، والتي لن ينفع في مواجهته سلاح الدول التي على الورق، أو المواقف التي على الورق!
على إن حسني مبارك، وبرغم كل شيء، أعظم “شجاعة” من أولئك الذين يدفعون الفلسطيني دفعاً على طريق التفريط، ويزينون له حلاوة طعم التنازل لكي يعفوا أنفسهم، من ثم، من اثم النتائج المدمرة.
غداً سيقولون : هو أراد، فكنا مع إرادته، وهل تريدوننا أن نكون “فلسطينيين أكثر من الفلسطيني؟!
وغداً سيقولون : لقد تركناه يمارس قراره الوطني المستقل، فإذا كان قد أصاب فلنفسه وإذا كان قد أساء فعليها!!
وغداً سيقولون : هذا هو الفلسطيني… لقد تعب من النضال،
وكانت الظروف أقوى منه، فاضطر لأن يقبل بما تيسر له الحصول عليه، فما لا يدرك كله لا يترك جله!! ماذا هل تريدونه أن يقاتل العالم كله وإلى الأبد؟! لقد كسب إلى صفه معظم دول العالم، إذ أيدته واعترفت به، وفي غد يأتي جيل جديد فيكمل المشوار وينجز المهمة!
بل لعلهم، في غد، سيقولون: لقد باع الفلسطيني في البداية وباع في النهاية، وموضوع البيع “أرضه” وقضيته، فماذا في يدنا، وأين هي مسؤوليتنا؟ ألم نتحمل ما فيه الكفاية من أجل فلسطين وأصحابها الذين لا يستأهلون كل هذه التضحيات؟!
والذين سيرفعون أصواتهم، غداً، مرحبين بقرار حسني مبارك الشجاع هم هم الذين شجعوا ياسر عرفات على انتهاج هذا الطريق ليتخلصوا من القضية وعبئها الثقيل،
وهم هم الذين شجعوا السادات من قبل، ثم أوفدوا إليه من يعرض عليه “ثمن التوبة”، بعدما اطمأنوا إلى أنه لن يتوب!
وهم هم الذين راهنوا على “المعتدلين”، في إسرائيل ودعوا عرب فلسطين إلى انتخابهم لكي نحرر “باعتدالهم” الأرض السليب!
للمناسبة: ألم تلاحظ كيف سقطت أسطورة الفرق بين الحمائم والصقور في إسرائيل، فإذا بيريز “متقدم” على شامير في رفضه لأية تسوية مهما كانت مهينة للعرب، والفلسطينيين منهم في الطليعة!
هم واحد في “التصلب” و”الرفض” و”التحدي”، والاستعداد للمضي في الحرب حتى آخر فلسطيني، بل حتى آخر عربي،
ونحن نحاول، وبإصرار، أن نكون واحداً في القبول والتنازل والسعي إلى “تسوية” مهينة نعرف إنها وهم وإنها سراب يستنزفنا ويستدرجنا حتى نخسر ما تبقى.
هم واحد في التمسك بكل حبة رمل في أرض اغتصبوها اغتصاباً،
ونحن نجتهد لأن نكون واحداً في التخلي عن أرض وطن له شعبه العظيم، الذي قاتل وناضل وجاهد كأعظم ما يكون الجهاد وما زال يجاهد عبر انتفاضته المجيدة المستمرة في خلخلة الكيان الإسرائيلي وإظهار هشاشته، لو توافر الحد الأدنى من إرادة القتال العربية…
على إن قرار حسني مبارك يعكس ما يطمئن:
فهو قد اتخذ اضطراراً، وبعدما تبين للحكم المصري إن حساسية شعب مصر العربي، تجاه قضية فلسطين أشد خطراً عليه من احتمال مواجهة “دبلوماسية” مع إسرائيل،
إنها شهادة بسلامة الحس الشعبي في مصر،
إن فلسطين في القلب، بعد، وستبقى،
إن فلسطين هي عنوان عروبة مصر، كما هي عنوان عروبة كل قطر آخر من أقطار هذه الأمة المنداحة بين المحيط والخليج،
لم تغير من طبيعة العلاقة معها “حتة ورق”، هي اتفاقات الذل والاذعان والتفريط في كامب ديفيد،
ولن يغير من طبيعة هذه العلاقة معها إعلان دولة على الورق،
ومصر عائدة إلى فلسطين، بقدر ما تعود فلسطين إلى ذاتها.
والانتفاضة ترسم الطريق وشارة النصر وتحدد الموعد المرتجى،

Exit mobile version