الآن وقد أنجز وارن كريستوفر مهمته الدقيقة التي حملته إلى المنطقة وجعلته يجوبها مشرقاً ومغرباً (مع استثناء وحيد هو لبنان) باتت ممكنة محاولة استجلاء أهداف الحركة النشطة لوزير الخارجية العجوز وتحديد الأولويات الأميركية في هذه المرحلة.
ومؤكد، بداهة، إن الهدف الأول هو تأمين المصالح الأميركية في المنطقة، ولأطول أمد ممكن، بعد الزلزال بل سلسلة الزلازل التي ضربت الوطن العربي في السنوات الثلاث الأخيرة ، بدءاً بغزو صدام حسين الكويت وانتهاء بتوقيع ياسر عرفات على اتفاق غزة – أريحا، بكل ما أثار الأمران من ردود فعل “متطرفة” تجلت أكثر ما تجلت في زيادة نفوذ من يسميهم الغرب “الأصوليين الإسلاميين”.
وإذا كانت مغامرة صدام حسين قد انتهت بكارثة قومية، فليس محسوماً حتى هذه اللحظة ما إذا كان ممكناً تفادي الكارثة القومية الجديدة التي ينذر بها الاتفاق البائس بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الإسرائيلي.
اللافت إن القيادة الإسرائيلية تتعامل مع هذا الاتفاق وكأنه إنجاز تاريخي تمكنت إسرائيل من اختلاسه في الليل العربي الساجي، وفي ظل اليأس المهيمن على القيادة الفلسطينية والذي يجعلها تتعهد بما يتجاوز قدراتها على الالتزام به.
ففي حين “يقاتل” إسحق رابين ومعه شمعون بيريز لتثبيت الاتفاق كأمر واقع جديد يحكم ويتحكم بمستقبل العرب وما يسمى “منطقة الشرق الأوسط” عموماً، لمصلحة إسرائيل ولضمان هيمنتها على هذه المنطقة، فإن ياسر عرفات يتصرف وكأنه حقق “إنجاز العمر”، فضمن لنفسه الاستمرار واللقب الفخم والاستقبال المهيب في العواصم الباردة التي كانت مغلقة أمام شعبه وقضيته وأمته وانفتحت له – فجأة – وبعدما غادر الثورة والقضية والأمة.
وفي حين يخرق “رئيس الدولة الإسرائيلية” التقليد والأصول المرعية في الكيان الصهيوني فيتوجه بنداء من أجل “الوحدة الوطنية”، ويتجاوز زعيم “الليكود” المعارض موجبات الصراع التكتيكي مع حكومة خصومه من قيادة “حزب العمل” فيتلاقى معها على قاعدة “الإنجاز التاريخي” ممثلاً في اتفاق غزة – أريحا يمضي عرفات بعيداً عن رفاق سلاحه القدامى ويتجاهلهم ويقفز من فوق الوضع المتفجر في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويتابع جولاته على الملوك والرؤساء في مختلف أنحاء أوروبا، طلباً للصورة المذهبة وطابور الشرف والاعتراف الشكلي به شخصياً لا بقضيته (وقد طمست) ولا بكيانه السياسي (وهو بعد جهيض)، ولا حتى بمنظمة التحرير (التي صارت أثراً بعد عين)، ولا بالانتفاضة التي فرضت نفسها على العالم والتي لولاها لما أمكن أن تفتح الأبواب المغلقة “للرئيس” الفلسطيني، والتي يوزع عرفات جلدها الآن على المحتفين (الطارئين) به، لأنه “أخرج” فلسطين من جدول اهتماماتهم وهمومهم ولم يدخلها إليهم ولا هو دخل بها أو معها،
إن إسرائيل تحاول إعادة بناء “وحدتها الوطنية” على حساب الفلسطينيين خاصة وسائر العرب عامة، في حين يتبدى يوماً بعد يوم كم خسر الفلسطينيون من قضيتهم ثم من وحدتهم الوطنية التي كانت أحد أهم منجزات التضامن العربي وإحدى أخطر ضماناته ، وبالتالي فقد كانت آخر قواعد الترابط والتكاتف والالتزام بالمصير الواحد بين العرب جميعاً، على اختلاف نظمهم وشعاراتهم السياسية.
وإذ تحاول إسرائيل حماية إنجازها التاريخي، فإن الولايات المتحدة الأميركية تحاول تأمين مصالحها من مخاطر ذلك الاتفاق بانعكاساته المحتملة على مجمل الوضع العربي.
ذلك أن “الاتفاق” على خطورته لم يتسبب في انهيار شامل وساحق في هذا الوضع المتصدع أصلاً والمتهالك نتيجة تراكم الأخطاء والخطايا والانحرافات والتفريط…
وبالتالي فقد كان لا بدّ من التحسب للاحتمالات المعاكسة التي قد تبلغ ذروتها بإسقاط اتفاق يتبدى مع الوقت أن ضمانته الوحيدة هي توقيع ياسر عرفات، وهو توقيع ثبت أنه يستفز غالبية الفلسطينيين بدل أن يستميلهم ويستقطبهم لتأييد اتفاق الإذعان هذا.
كذلك فلقد ثبت أن هذا الاتفاق لم يستدرج “كل” العرب إلى الاستسلام، وإلى فتح الحدود للتطبيع، ورفع المقاطعة التي قد تتحول إلى سلاح إسرائيلي في وجه المصالح الأميركية، وقد تكون “المعبر” الممتاز لكي تفرض إسرائيل نفسها كشريك أول على الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها الهائلة في المنطقة.
فغزة هي بعض فلسطين، واريحا هي بلدة في فلسطين، ولكن إسرائيل هي التي تتقدم لكي تكون بديل فلسطين وبديل لبنان وبديل أي احتمال للتقدم في أي قطر عربي.
وإسرائيل حليف للولايات المتحدة ولكنها ليست الولايات المتحدة.
وفي المصالح لا مجال للعواطف. واتفاق غزة – أريحا إنجاز إسرائيلي، وبالتالي فهو إنجاز غربي، لكن إسرائيل ليست هي الغرب كله ولا هي تغني عنه، ولا تعوضه، ومصالحها ليست متطابقة بالضرورة مع مصالحه وقد يقع التناقض – بعد التنافس – وقد يجر التناقض إلى تصادم.
وكريستوفر يستهدف برحلته حماية الإنجاز الإسرائيلي باتفاق غزة – أريحا، ولكنه أيضاً يحاول أن يتخذ منه تخماً للمصالح الإسرائيلية داخل خريطة المصالح الأميركية وليس خارجها، ولضمان استمرارها واستقرارها وليس من أجل شطبها ووراثتها في المنطقة الأغنى والأهم من الكرة الأرضية.
فالمصالح الأميركية ليست هي المصالح الإسرائيلية تماماً.
قد تتلاقى معها، ولكنها قد تتناقض أيضاً.
والولايات المتحدة حليف استراتيجي لإسرائيل، لكن لإسرائيل مصالحها التي قد لا تتحقق إلا على حساب المصالح الأميركية.
ووحده منيفهم هذه الخريطة المعقدة والمتشابكة يمكنه أن يأخذ من الولايات المتحدة أكثر مما يعطي إسرائيل.
والمأساة في أن كثرة من الحكام العرب تعطي إسرائيل فيمتنع عليها الأخذ من الأميركيين، وينتهي الأمر بأن تدفع للطرفين ما لها ومعنى وجودها ثم وجودها ذاته.