طلال سلمان

على الطريق الإمبراطورية هي البطل لا الإمبراطور

“تفرج” الكون، أمس، على مراسم حفل تنصيب إمبراطور الكون: هو خلف زجاج مضاد للرصاص، والناس خلف شاشاتهم الصغيرة، يسمعون، يتابعون بفضول، يتلقون ساكتين ساكنين، وقد يعلقون بهزة من الرأس أو بزم الشفاه، وقد يخافون فيثرثرون حول ثياب السيدات أو فخامة الفرقة الموسيقية ومهابة الاحتفال.
الكون في موقع المتفرجين، والإمبراطور المزهو بشبابه يتباهى بقوة بلاده باعتبارها القدر وصانع أقدار الآخرين.
لقد اندثر ما هو “محلي”، وتهاوت الحدود ليس فقط بفعل “عاصفة الصحراء”، بل قبلها بفعل “عاصفة الثلج” التي جمدت حتى الموت المنافس الأعظم والذي بدا ذات يوم بأنه بعقيدته كما بقوته الأكثر أهلية للبقاء والفعل، وبفعل “عاصفة الدولار” التي اجتاحت أوروبا من قبل (ثم اليابان) فبعثرت أسطورة عظمتها التاريخية…
أمحت الحدود، واندثرت العقائد التي هزت ذات يوم هذه الدولة الأميركية المركبة على الأسرع في استخدام السلام، وشاخت الأحزاب التي كانت تحمل راية التغيير، وأكلت الثورات أبناءها وانهمك الثوار القدامى في مقاومة من صدقوهم فتبنوا أفكارهم وحملوا من أجلها أحلامهم على أكفهم وكانوا يبشرون بالغد الأفضل حتى اتهموا في عقولهم أو صنفوا وحوكموا كإرهابيين.
لا دولة إلا الولايات المتحدة الأميركية، ولا شعب غير الأميركيين.
لا بد من أن تذوب الدول (السابقة!!!) جميعاً في كيان الإمبراطورية – القارة الجديدة.
لا بأس أن تفاقم الفقر في العالم أجمع. المهم أن ينهض الاقتصاد الأميركي من كبوته وأن يستعيد معدلات نموه، وأن تتوفر فرص عمل لائقة لجميع الأميركيين… أما باقي الشعوب فيمكن “إعادة الأمل” إليهم على الطريقة الصومالية!
إذن فلتحمل شعوب الأرض ثرواتها، طائعة مختارة وإلا فبالسيف، على واشنطن، وسيقدر الإمبراطور لها ذلك فيمنحها القمح والأمان ودفء الحماية الأميركية.
إلى الخلف كان “شبح” بأني الإمبراطورية وصانع مجدها المنبوذ: كتلة من الإحباط والارتباك واليأس… وحين تجيء الإشارة إليه تحية لنصف القرن الذي منحه للولايات المتحدة الأميركية لا يغيب التجهم ولا تفرد السعادة جناحيها على الوجه المكتئب، بل لعله يشعر بغصة أن يكون هذا اليافع الجاهل في السياسة قد ألحق به هزيمة شنعاء هو الذي انتصر على العالم أجمع!
كبيرة هذه الإمبراطورية على هذا الفتى الغر!
إنها أكثر اتساعاً من كتفيه، ومشكلاتها أعظم تعقيداً من أن تحسمها خبراته، وطبيعة الصراع الضاري فيها ومن حولها أخطر من أن يجابه بالشجاعة الفردية أو بحاملات الطائرات وصواريخ “كروز” عابر القارات.
كبيرة… والصورة تشبه جون كنيدي، لكن الرئيس الحالم “بإمبراطورية القيم” انتهى مقتولاً وسط جماهير الشعب الذي صدقه وجاء قاتله إلى السلطة فصادرها وأعاد تصويب الاتجاه!
وهو لا يأتي الآن لينتقم لجون كنيدي بتحقيق أحلامه التي بقيت جثثها طعاماً للغربان والكلاب في شارع الموت بمدينة “دالاس” حاضرة تكساس وحافظة تقاليدها.
إنه البديل، إنه “السوبر”، ولكنه الابن البار للمؤسسة القاتلة، وقد فضلته على رجلها الممتاز جورج بوش، لأنه على هذا القدر من “البراءة” و”الوسامة” والاستعداد للاندفاع في المغامرة إلى مداها الأقصى.
اللعبة بحاجة إلى دم جديد، ثم إنها بحاجة إلى وجه بغير وشم، وإلى رئيس غير مثقل بأمجاد الصراع الماضي،
لا بد من مسح لطخات الدم والقسوة عن وجه النظام العالمي الجديد: التجديد في “الصورة” شرط التسويق. لا بد من إيهام العالم بأن الاستعمار القديم قد زال وأمحى حتى لا يربط بين الإمبراطورية الوليدة وسابقاتها التي انتهت حرساً إمبراطورياً لأمجاد ملك الملوك الأميركي.
“بيل جيفرسون كلينتون” وقدوته أو نموذجه الأعلى فرانكلين روزفلت.
لم يعد الشعار العزلة عن العالم.
ولم يعد الهدف الخروج إلى العالم لترويج قيم الحضارة الأميركية ومبادئ نلسون.
صار الشعار المعلن: إدخال العالم في أميركا، أو احتواء العالم، أو أمركة العالم.
“لن نتراجع في الخارج”…
ولكن بمنطق إسقاط الحدود، وانتفاء “المحلي”. وذوبان الدول في الإمبراطورية الواحدة، فليس ثمة “خارج”.
الخارج هو الآخر. والآخر مستضعف ومرتهن ومشلول الغرادة وجائع غالباً.
إذاً فلا خيار أمامه غير الانضواء في النظام العالمي الجديد والانضباط كأي مواطن أميركي صالح… بل لعل الطموح أن ينال مرتبة “الأميركي”. “العالم الجديد” يصنع لـ “العالم القديم” نظامه ويحدد له دوره بدقة لا تقبل التأويل: واشنطن تحدد من يصنع ماذا في أوروبا، أو في اليابان، وكيف وبأي مقدار، وتحدد أيضاً من يزرع ماذا وباية كميات، وعموماً هي التي تحدد الأسعار، ومنافستها محظورة وكذلك مناقشة قراراتها أو الطمع بمشاركتها… مع استثناء وحيد لبريطانيا بموقع الملحق والرديف، تأميناً للظهر من بقايا أحلام العظمة الأوروبية، لاسيما عند الفرنسيين والألمان والروس إذا عضهم الجوع حتى الثورة مجدداً.
الإمبراطورية هي البطل لا الإمبراطورية.
كينيدي يقتل في وضح النهار وتسحب أحلامه من التداول فتدفن في خليج الخنازير.
ونيكسون فاتح الصين، والموفر هزيمة ماحقة في فيتنام، ينتهي “كذاباً” ومزوراً فتلفظه الرئاسة والشعب المبرمج على التلفزيون!
وجورج بوش المحنك، صاحب التجربة العريضة، موجه الضربة القاضية إلى الإمبراطورية السوفياتية ومعها العقيدة الشيوعية، محتكر النفط وطرق مواصلاته والمتحكم بأسواقه وأسعاره، مقتحم العالم الثالث بثياب “المحرر”، ورافع الراية الأميركية فوق الديار الإسلامية المقدسة، مطعم الجياع في أفريقيا ومجسد أمل الشعوب المضطهدة في الديموقراطية وحقوق الإنسان الخ…
جورج بوش هذا ينتهي مرذولاً مجللاً بالفشل، متهماً بالإساءة إلى صورة أميركا في العالم، متروكاً لشماتة صدام حسين!
الإمبراطورية هي البطل لا الإمبراطور.
… أما في بلادنا فالسلطان هو منتحل صفة الله وأسمائه الحسنى، جبروته وقدراته غير المحدودة، يحيي ويميت، يمنح ويمنع، يعطي من يشاء وبغير حساب الخ…
هناك يقول الإمبراطور: بارك الله أميركا، بارك الله الأميركيين.
وهنا نجبر على أن نقول: حفظه الله، وأن نعتبره “المفدى” وصاحب الجلالة وندعو له بطول العمر صبح مساء… في حين لا يفعل إلا إنقاص أعمارنا وأرزاقنا وأراضينا وكرامتنا وأهليتنا بالحياة في هذا العصر، “عصر الديموقراطية وحقوق الإنسان”!
هناك “يعترف” الإمبراطور أنه بشر، فيحكم أربع سنوات، ثم يعرض نفسه على الشعب مرة أخرى، إذا رفضه تقدم يصافح “خصمه” ويسلمه مفاتيح القوة النووية ويتحداه أن يفعل أكثر مما فعل للإمبراطورية.
الإمبراطورية هي البطل لا الإمبراطور.
وعلى الشاشة الإمبراطور، أما الكون فجمهور من الرعايا أقصى حقوقهم الفرجة والتلقي.
فتفرجوا وتبلغوا وبلغوا تعليمات السيد الجديد!

Exit mobile version