طلال سلمان

على الطريق الإسرائيلي الجميل وعرب التبسيط!

التبسيط في السياسة هو الوجه الآخر للفتنة: هو يؤدي إلى الانتحار بالوهم بينما الفتنة أشد من القتل.
في عصر الهزيمة كثر بين العرب التبسيطيون، الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الغير باعتماد تبسيط مضحك إلى حد البكاء.
مع إعلان نتائج الانتخابات الإسرائيلية والتثبت من نجاح إسحق رابين (بطل حرب 5 حزيران 1967) وحزبه (الاشتراكي برغم صهيونيته الفاقعة!!) اندفع التبسيطيون العرب يفرشون أوهامهم بساطاً أحمر ليمشي فوقه “أملهم” الجديد في “التسوية” وراحة البال.
من نماذج تلك الأوهام القاتلة:
*اللجوء إلى منطق تبسيطي يقول: طالما أن رابين هو رجل أميركا في إسرائيل، وطالما أن العرب، هم في كنف أميركا وتحت رعايتها، إذن فكل المشكلات إلى حل سريع، المفاوضات ستنطلق كالصاروخ وجيش الاحتلال الإسرائيلي سيجلو ليسهل تطبيق مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وتنفيذ القرار 425، في لبنان، تحصيل حاصل.
إنهم يحكمون على إسحق رابين وكأنه – مثل ملوكهم والرؤساء من عرب اميركا – مجرد أداة طيعة أو خادم مطيع أو منفذ بلا رأي للإدارة الأميركية.
إنهم يفترضون أنه مثل من عندهم استهانة “بشعبه”، وإن “ولاءه” للسيد المطاع في واشنطن يخرجه من وطنيته، وإن كرسيه أغلى لديه من “أرضه” والمستوطنات المزروعة فيها تجسيداً للحلم الصهيوني بإمبراطورية إسرائيل الكبرى…
*أو اعتماد منطق تبسيطي آخر يصور الفوارق بين الإسحاقين شامير ورابين وكأنها جوهرية تتصل بالعقيدة ذاتها وبالطموحات والاستراتيجية والنهج.
ينسون، بل هم يتناسون، إن الإسحاقين إسرائيليان، يؤمنان بالعقيدة ذاتها، وينظران إلى العرب النظرة ذاتها ويكنان للفلسطينيين منهم العاطفة نفسها، ويحلمان بإسرائيل الكبرى إياها.
وينسون، بل هم يتناسون، أن رابين محارب من أجل السياسة ذاتها التي قادها شامير وحزبه طوال الخمس عشرة سنة الماضية… بل هما قد تناوبا على أداء “المهمة الوطنية” ذاتها: أحدهما قاتل والثاني استثمر القتال في السياسة، ثم عاد الأول فاستقوى بنتائج السياسة ليحقق لها مزيداً من الثمار بالقتال، وهلم جرا.
مرة أخرى، يسقط هؤلاء على قادة إسرائيل ما يحفظونه عن معظم قادة العرب حيث يحالف بعضهم العدو إذا ما تهدده الخطر ضد أخيه، بل ضد شعبه وأمته جمعاء.
*وهناك منطق تبسيطي آخر يتجاهل طبيعة العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وبالمقابل العلاقات العربية – الأميركية (إذا صح الافتراض بأن للعرب مجتمعين علاقات واحدة ومحددة مع بعضهم البعض أو مع أي طرف دولي)…
بين واشنطن وتل أبيب علاقة تحالف جذرية واستراتيجية ودائمة، إنها علاقة الوريد بالقلب، علاقة الدماغ بالأعصاب.
أما بين العرب (أي عرب؟) وواشنطن فأنماط متعددة من العلاقات لكنها لم ترتق أبداً إلى مستوى التحالف، ولا إلى أي مستوى ندي لا مع مجموعهم ولا مع بعضهم ممن يفترضون أنفسهم مقربين ومعتمدين وممن لا ينام جورج بوش إلا بعدما يطمئن إلى راحتهم!
وصحيح أن التحولات التي هزت العالم وبدلت صورته لا بد أن تغير في طبيعة الوظيفة الإسرائيلية بل في السياسة الأميركية، لكنها – وحتى إشعار آخر – لن تمس طبيعة العلاقة التكاملية القائمة بين واشنطن وتل أبيب.
وخطيئة إسحق شامير (وهو المتحجر والمتخلف) أنه لم يفهم هذا التحول في طبيعة الوظيفة، فكان لا بد من التخلص منه، ولأسباب أميركية وإسرائيلية معاً، وقد كان… وها قد حل محله “الإسرائيلي الجميل” بملامحه الأميركية الجذابة.
كانت ضرورة أميركية وإسرائيلية أن يختفي “الوجه الإسرائيلي البشع”، وأن يأتي إلى القيادة الإسرائيلية وجه غير محروب و”واعد”… لذا، وقبل أن “يطير” شامير والليكود تم “تطييير” شيمون بيريز من قيادة حزب “العمل” ليخلو المسرح “للمنقذ” إسحق رابين.
إن الاتيان برابين يلبي حاجة أميركيةن لاسيما لإدارة جورج بوش ومعركته الانتخابية. لقد ربح الآن “صوتاً” له وزنه داخل الولايات المتحدة.
لكن ما يحاول أن يتجاهله التبسيطيون هو الثمن الذي سيتوجب على العرب أن يدفعوه، ضماناً لنجاح إسحق رابين بوصفه أحد عناوين المشروع الأميركي للمنطقة.
وأغلب الظن أن العرب سيدفعون غربماً لنجاح رابين “بطل التسوية” يفوق بإضعاف ما دفعوه غرماً لتطرف شامير و”ليكوده” المتصدع والمهدد الآن بالانفراىط.
ليس للعرب، بمجملهم، أي تأثير سياسي جدي.. إنهم مختلفون إلى حد إلغاء ذاتهم. إنهم منقسمون إلى حد الاندثار، فهل سيكون الأميركي (ناهيك بالعدو الإسرائيلي) احرص على تضامنهم منهم هم؟!
إنهم كم مهمل، واتباع خانعون. يهربون من الحرب الصعبة إلى وهم السلام المستحيل، فلا نصراً يحققون ولا تسوية يجنون، وإنما المزيد من الذلة والانكسار والهوان وانعدام القيمة.
لا أحد يتبرع بمنح القيمة والاعتبار لمن يلغي بهوانه ذاته ووزنه.
لا عواطف في السياسة ولا أخلاق. ومن لا يملك القوة يشطب بلا شفقة.
ولعل العرب يسهلون مهمة رابين بشطب أنفسهم عبر هذا الارتماء الرخيص عليه، والتوهم أن انتصاره يخصهم ولو بنسبة ضئيلة.
إنه انتصار سياسي أميركي، فما علاقة العرب به؟!
بل إن الغياب العربي قد سهل على الأميركيين تحقيق هذا النصر داخل الكيان الصعب… فهل سيستحضرونهم الآن ليشاركوهم في الثمار؟! ولماذا؟! هل بسبب قوتهم (؟؟) أم بسبب مصادر الثروة في أرضهم وقد باتت في حوزتهم وبحراسة جندهم مباشرة؟!
أما أن يتخيل بعض رموز الانحطاط العربي وبعض إفرازات الهزيمة احتمال لقاء بين رابين وبين “رئيس دولة فلسطين” ياسر عرفات فهذا يتجاوز التخريف والتضليل ليصب في خانة الترويج للعدو على حساب فلسطين كلها، وعلى حساب مستقبل شعبها.
وليس مستغرباً ما ذهبت إليه صحيفة “لوس أنجليس تايمز” حين توقعت تنفيذ سيناريو يجري التحضير له وتتم بموجبه دعوة رابين إلى واشنطن حيث يتسلم مفتاح المدينة ويأخذ معه ما هو أفضل من ذلك أي ضمانات القروض الأميركية.
… وسيكون للعرب دور فعلي: فهم الذين سيدفعون، المال أولاً، ثم الأرض الجديدة التي ستقام عليها المستوطنات الجديدة (ولو بأسماء المستوطنات القديمة) كخطوات على طريق إسرائيل الكبرى وليس وهم السلام الأميركي الذي ينشده عرب الهزيمة والأوهام الكسيحة!

Exit mobile version