طلال سلمان

على الطريق الإسرائيليون والأميركيون والعرب في الشارع الفلسطيني

كما اخترق خالد محمد أكر إسرائيل وقاتلها مجتمعة في معسكر، هكذا تقتحم الانتفاضة اليوم اليكان الإسرائيلي وتدخل حجارتها غرف النوم والملاجئ المحصنة، وتضطر كل “إسرائيلي” أن يعيد التفكير بأساس وجوده فوق هذه الارض التي أخذها بقوة السلاح والتي لا يمكنه أن يستمر فيها بقوة السلاح.
وبغض النظر عن الأشكال “الديموقراطية” للتعبير، فإن الأزمة الإسرائيلية تبدو أخطر وأقسى من أن يمكن استيعابها بالاستعانة بالأساليب المعروفة للصراع السياسي، وإن حلها – من ثم – لا يمكن أن يكون بالانتخابات، مبكرة عن موعدها أو متأخرة.
إن الأزمة قد نزلت – بكل ثقلها – إلى الشارع، لأنها لم تجد وليس محتملاً أن تجد حلولاً ناجعة لها في مكاتب الحكام والأحزاب والقيادات السياسية في الكيان الصهيوني.
وإذا كان الفلسطيني يعبر بانتفاضته عن وجوده، وعن حقه في أن يبني دولته فوق أرضه، فإن “الإسرائيلي” – بحكم منطق القوة، والقوة وحدها، الذي تربى في ظله – إن الانتفاضة تهدده في وجوده، فبقدر ما هي تستحضر الفلسطيني فإنها تلغيه هو وتخلخل أركان دولته وتجعل مصيرها على كف عفريت، أو طفل بيده حجر!
لقد نزل الفلسطيني إلى الشارع ليقول: لا، للاحتلال الإسرائيلي!
وها هو الإسرائيلي ينزل إلى الشارع ليكشف عمق الأزمة في كيانه: فبعضه يقول “السلام أفضل من إسرائيل الكبرى” و”قوة السلاح ليست أبدية”. وبعضه الآخر يقول: لن نتنازل عن شبر واحد من “أرض إسرائيل”، لن نوقف سياسة القبضة الحديدة، لا للسلام مقابل الأرض، وليذهب شولتس للبحث عن التنازلات في الجهة الأخرى، ليجد الحل عند الملك حسين ومعه أو من دونه، لا فرق!!
ويبدو إن الولايات المتحدة الأميركية قد نزلت إلى الشارع الإسرائيلي، هي الأخرى، لتقول إنها وحدها القادرة على إيصال الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، إلى تسوية تهدئ غضبة الفلسطيني عن طريق “الاعتراف” بوجوده، دون أن تأخذ من الإسرائيلي إلا ما تعتبره ضرورياً لطمأنته على وجوده.
ولعل تظاهرة “الليكوديين” التي نظمها شامير وأطلقها في لحظة مغادرته إلى واشنطن ليناقش شولتس، في خطته، تريد أن تقول للأميركيين إن رئيس وزراء إسرائيل “المتطرف” و”المتصلب” والرافض لأي تنازل، ما زال هو الأقوى في الكيان الصهيوني، وإنه أقوى من شولتس وشيمون بيريز مجتمعين.
فإذا كانت “حركة السلام الآن” قادرة على حشد مائة ألف إسرائيلي، فإن شامير يريد أن يقول بتظاهرته إن “حركة الحرب الآن وغداً وبعد غد” قادرة على حشد مائتي ألف إسرائيلي… أي إنه يمثل الأكثرية المطلقة من الإسرائيليين (الثلثين) وإن التطرف هو السيد، وإن إسرائيل مهددة بالانفراط إذا ما تخلت عن منطق القوة والقبضة الحديدية.
وشامير يعرف إن “المسيح لم يأت، ولم يتصل هاتفياً، وإن المسيح لن يأتي أبداً”، كما تقول “حركة السلام الآن”، ولكنه يعرف أيضاً إن العرب “مستعدون للتنازل، بل هم باشروه بمجرد قبولهم بالولايات المتحدة الأميركية وسيطاً، فليأخذ منهم الحد الأقصى أولاً، وليعدل شولتس خطته، في ضوء هذه التنازلات ومن ثم يمكنه أن يتفاهم معه على ما يمكن أن تعطيه إسرائيل!
وهذا منطقي، ومن الصعب القفز من فوقه!
لقد كان “العرب”، في زمن مضى، يعتبرون الولايات المتحدة حليفة عدوهم القومي، وضامنة وجوده، ويقولون إنها تنهب خيراتهم، وتهدد مستقبلهم، وتضع ثقلها الهائل (معنوياً ومادياً) ضدهم،
بل لقد وصل بعض “العرب”، ومن موقع المسؤولية، إلى حد تصنيف الولايات المتحدة، بوصفها قائدة معسكر الإمبريالية العالمية، كعدو أول لهم، وقدموها على عدوهم القومي (إسرائيل) ذاته،
فواشنطن، حتى الأمس، هي في عين “العرب” عدوة تقدمهم وحقهم المشروع في حياة كريمة…
أليست هي التي ترعى فتحمي، إضافة إلى إسرائيل ومعها، الأنظمة الأكثر تخلفاً في ديارهم وتمكن منهم الأسوأ من حكامهم، وتثير بينهم الفتن والحروب الأهلية، وتمنعهم من إحراز النصر في الحرب، ثم تجبرهم على صلح الاذعان طالما إنهم مهزومون؟!
فإذا كان “العرب” قد تجاوزوا هذا كله فلماذا لا يتوقع شاميرأن يكمل حكام العرب مسيرتهم في التنازلات حتى النهاية، فيقدموا هم “الحل” لمشكلة إسرائيل في الضفة والقطاع (وسائر فلسطين)، بأن يتولوا هم احتواءها وتدجينها، خصوصاً وهم يدركون إنها تهدد عروشهم بقدر ما تهدد سلامة إسرائيل وربما أكثر.
ومن حق شامير أن يعتبر إن لشولتس دوراً شخصياً في الدعوة الجزائرية إلى قمة عربية، وإن هذه القمة لن تكون – إذا ما انعقدت – سبيلاً لتصعيد الانتفاضة، بل للتحايل عليها و”تسييسها” و”ضبطها” في موقع لا يخلخل الموقف المعلن للنظام العربي الواحد.
وشامير يعرف طبعاً إن شولتس قد جاء إلى المنطقة فصال فيها وجال بهدف محدد هو: أن يحول مجرى الطوفان، فيبعث بسيله في اتجاه الأردن، أو المنظمة، أو بعض العرب، أو في اتجاههم عموماً،
وطالما إن شولتس يريد أن يحول الانتفاضة من مشكلة لإسرائيل إلى فتنة فلسطينية – فلسطينية، أو اقتتال فلسطيني عربي، أو حرب أهلية عربية جديدة، فلماذا يطلب منه التنازل طالما إن الأمل في تحقيق مثل هذا الإنجاز ما زال قائماً؟!
فشامير يفضح بحركته “المتطرفة” جوهر خطة شولتس “المعتدلة”: المطلوب تنازلات من العرب (والفلسطينيين أساساً)، مقابل الإغراء بضمان أميركي للتسوية الممكنة!
أي إن الرهان كان وما زال هو هو: أن تصطدم الانتفاضة بمنظمة التحرير فتنتهي قضية فلسطين، أو تصطدم الانتفاضة (ومعها المنظمة، ولو سراً) بالملك حسين فيتفجر الأردن، أو يتصادم الملك حسين ومعه ياسر عرفات بسوريا فتتفجر المنطقة، وفي كل الحالات تنتهي الانتفاضة ويهدأ بال إسرائيل.. ولو حتى إشعار آخر!
وخلاصة منطق شامير: من يقبل الأميركي وسيطاً لا حق له بالاعتراض على الإسرائيلي محتلاً، ومشكلته في هذه الحالة مع المتطرف العربي لا مع المتطرف الإسرائيلي.. بل إن المتطرف الإسرائيلي هو حليفه الموضوعي، في هذه اللحظة.
لقد أراد الأميركيون أن يلعبوا مع شامير لعبة الشارع الإسرائيلي، فلعبها ليؤكد لهم إنه أقوى من فرس رهانهم، شيمون بيريز.. وهو اليوم يريدهم أن يلعبوا لعبته: “القوة مع العرب، وهي اللغة التي لا يفهمون غيرها، من أجل أن يدفعوا هم ثمن الانتفاضة، وأن يتولوا هم، وبرعاية أميركية، وأدها.. خوفاً من انتقال عدوى التطرف “الشاميري” إلى صفوفهم!
فالتطرف متى جاء من إسرائيل يكون حليفاً للحكام العرب،
أما إذا جاء من داخل أقطارهم فهو عدو لهم قبل أن يكون عدواً لإسرائيل،
… على إن الانتفاضة تكمل رصف الطرق إلى “السلام” الحقيقي بحجارة “الأطفال” الكبار في الضفة وغزة بني هاشم،
وهي تعرف من التاريخ ما يكفي لتحبط مثل هذه المحاولات المكشوفة لاحتوائها وتدجينها وشرائها بتنصيب بعض الوجهاء جلادين “محليين” لشعب فلسطين باسم الحكم الذاتي، وتفويضهم بيع أرضها بحجة الوصول إلى السلام.. فأين يقف السلام بعدما تذهب الأرض؟1
وبين حكايات التاريخ:
بعد الهزيمة العربية في 5 حزيران 1967 أعلن وزير حرب العدو الإسرائيلي، آنذاك، موشى دايان، إنه سيجلس إلى جانب الهاتف ينتظر أن يرن ليسمع عبر سماعته تسليم الحكام العرب، واحداً اثر الآخر، وفي الطليعة منهم ملك الأردن حسين،
ومات موشى دايان، والهاتف أخرس، لا يرن…
فبرغم كل ما فعله الحكام العرب بالأقطار التي يحكمونها فإن واحداً منهم لم يجرؤ على إعلان الاستسلام… وحين تجرأ السادات ففعلها لم يعش بعدها طويلاً، وصار ثمن الاستسلام محدداً وماثلاً أمام الجميع، داخل القمم وخارجها.
والكلمة بعد للانتفاضة، وليس لورثة السادات!

Exit mobile version